عن أمير المؤمنين (عليه السّلام): "ولِسَانُ الصِّدْقِ يَجْعَلُهُ اللَّهُ
لِلْمَرْءِ فِي النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْمَالِ يَرِثُهُ غَيْرُهُ"[1].
في فطرة الإنسان حبّ الكمال، ومن الكمال أن يُذكر الإنسان بخير؛ فإذا ورد اسمُه على
الألسُن؛ ذكرَهُ النّاس بالخير ووصفوه بما يحبه الله عز وجل له من صفات، وهذا ما
يذكره الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بوصف ذلك بأنه أكثر خيرًا من المال
يجمعه الإنسان فيرِثُه غيره، وهذا يعني أن جُهد الإنسان ينبغي أن ينصبّ على التحلّي
بتلك الصفات الّتي تكون محلّا للثّناء من قِبل النّاس دون أن يكون الثّناء هو
الغاية، وهو الشّهرة الممدوحة غير المذمومة، ولذا يكون التوسّل إلى الله عز وجل
وسيلة لنيل ذلك قال تعالى على لسانه خليله إبراهيم (عليه السّلام):
﴿رَبِّ هَبْ لِي
حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي
الْآَخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ﴾[2], وقد كتب الله
له ذكرًا جميلاً وثناءً حسنًا بعده إلى يوم القيامة، وقد استجاب الله دعاءه، لأنّه
تمسّك بأسباب ذلك من الحكمة الّتي سأل الله عز وجل أن يهبَها له.
وقد حكى الله ما جعله لإبراهيم من مقام فقال:
﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا
يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا
جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ
لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّ﴾[3].
وتبيّن الآية أنّ الإنسان الّذي يبتعد عن أهل المعاصي والشّرك وأهل الدّنيا قد يعيش
العزلة في هذه الدنيا بسبب ذلك؛ ولكن الله عز وجل يكتب له عِوضًا يسلّيه به؛ وأهم
ما يعطيه له هذا الثّناء الجميل الّذي لا كذب فيه ، بل وصفه بأنه عليّ وهو الرفيع،
فجعل الله له ولذريّته ثناءً جميلًا صادقًا رفيع القَدر.
كما أنّ من أسباب هذه الشّهرة الممدوحة وهي الشّهرة بالخير المواظبة على العمل
الصالح, وقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) - في وصيته لابنه الحسن (عليه
السّلام) -: "وإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِينَ - بِمَا يُجْرِي اللَّه
لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِه - فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ
ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ"[4]، فمعرفة الصالحين والوصول إليهم تتمّ بما يجعله
الله للإنسان من ذكر حسن تنطلق به ألسنة العباد.
ولقد امتنّ الله على رسوله وحبيبه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) بأن جعل ذكره
عاليًا رفيعًا فقال تعالى:
﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ
وِزْرَكَ * الّذي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾[5]. فقد أعلى
الله عزّ وجل ذِكْر نبيّه عن غيره من النّاس, ومن ذلك أن قرَن الله اسمه (صلّى الله
عليه وآله وسلّم) باسمه في الشّهادتين الّلتين هما أساس دين الله, وقد ورد في تفسير
عليّ بن إبراهيم: "«ورَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» قال : تذكر إذا ذكرت، وهو قول النّاس:
أشهد أن لا إله إلَّا اللَّه، وأشهد أنّ محمّداً رسول اللَّه"[6].
"اللَّهُمَّ أَعْلِ عَلَى بِنَاءِ الْبَانِينَ بِنَاءَه، وأَكْرِمْ لَدَيْكَ
نُزُلَه، وشَرِّفْ عِنْدَكَ مَنْزِلَه، وآتِه الْوَسِيلَةَ وأَعْطِه السَّنَاءَ
والْفَضِيلَةَ، واحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِه، غَيْرَ خَزَايَا ولَا نَادِمِينَ، ولَا
نَاكِبِينَ ولَا نَاكِثِينَ، ولَا ضَالِّينَ ولَا مُضِلِّينَ ولَا
مَفْتُونِينَ"[7].
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
[1] نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، ص 65.
[2] سورة الشعراء، الآيات 83-85.
[3] سورة مريم، الآيتان 49-50.
[4] نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، ص 427.
[5] سورة الشرح، الآيات 1-3.
[6] علي بن إبراهيم القمي، تفسير القمي، ج2، ص 428.
[7] نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، ص 154.