قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): "ولَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللَّه (صلّى الله
عليه وآله) كَافٍ لَكَ فِي الأُسْوَةِ، ودَلِيلٌ لَكَ عَلَى ذَمِّ الدُّنْيَا
وعَيْبِهَا، وكَثْرَةِ مَخَازِيهَا ومَسَاوِيهَا، إِذْ قُبِضَتْ عَنْه أَطْرَافُهَا
ووُطِّئَتْ لِغَيْرِه أَكْنَافُهَا"[1].
بغضّ النّظر عن الحلال والحرام في الدّنيا فإنّ الانشداد إليها حتى لو كان في
الحلال، والاستغراق في متاعها وملذّاتها وإن كانت مباحة، والنّيل من خيراتها بشكل
كبير ولافت وإن كان وفق الضّوابط الشّرعية والعُرفية، فإنّ هذا كلّه على ما يبدو
مانعٌ من بلوغ درجات عالية في الرقيّ المعنوي والاقتراب من المقامات الرّفيعة الّتي
نالها المقرّبون والأولياء. وقد أشار الإمام (عليه السّلام) إلى ذلك حين تحدّث عن
الأنبياء والجوع والهروب من الدّنيا والإعراض عنها، فقال أيضًا: "وإِنْ شِئْتَ
ثَنَّيْتُ بِمُوسَى كَلِيمِ اللَّه (عليه السّلام) حَيْثُ يَقُولُ:
﴿رَبِّ إِنِّي
لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾[2] واللَّه مَا سَأَلَه إِلَّا
خُبْزاً يَأْكُلُه، لأَنَّه كَانَ يَأْكُلُ بَقْلَةَ الأَرْضِ، ولَقَدْ كَانَتْ
خُضْرَةُ الْبَقْلِ تُرَى مِنْ شَفِيفِ صِفَاقِ بَطْنِه، لِهُزَالِه وتَشَذُّبِ
لَحْمِه"[3].
وهذه كلّها أمور تُشير إلى مستويات وأنماط من التعلّق بالدّنيا أو الانشداد إليها
أو الانشغال بها أو النّيل منها؛ وهي أمور جافاها الأنبياء وأعرضوا عنها, فيا تُرى
هل هذا الإعراض المشترك بين الجميع يُعدّ صدفة أم أنّه باختيار الأنبياء والأولياء
وبتوفيق وتسديد الله تعالى لهم؟ وإنّما هذا من أجل أن تنمو في نفوسهم أسباب الرّفعة
المعنويّة، وأن يكون التّوحيد في قلوبهم حقيقةً صافيةً نقيّةً خالية من الشّوائب
والأشراك الخفيّة الّتي تتسلّل من خلال المغريات والتّلذّذ بها كالأكل والشّرب
وسائر المتع الّتي تطلبها النّفس توقًا للرّاحة والأنس في الدّنيا، ولذا سنجد أنّ
الّذين وفّقهم الله تعالى لكسب المال المشروع بالحلال والجهد والتّعب وهم يبتغون
الله ورضاه قبل أيّ شيء أقحموا أنفسهم في عادات وأنماط تُبعدهم عن اللّذائذ
والتّنعّم بها كسليمان وداوود (عليهما السّلام) والإمام عليّ (عليه السّلام)
والأئمّة (عليهم السّلام) فإنّهم كانوا يحوزون إمكانيّات كبيرة، لكنّهم كانوا
يوزّعونها ويُنفقونها للآخرين بينما هم يأنسون بقليل من المأكل والمشرب والملبس،
ولا يجنحون أو يميلون نحو امتلاك العقارات وبناء القصور والدّخول في عالم المفاخرة
الّذي يلجأ إليه عادةً من حصل على مواقع عالية متقدّمة في الدّنيا, ثمّ إنّ هذا
المسلك هو سبب تحقّق الكرامة الإلهيّة الخاصّة الّتي يحتاجها كلّ مؤمن صادق ويسعى
إليها كلّ طالب رقيّ معنوي، ويمكن أن نضع المعادلة التّالية: كلّما ابتعد الإنسان
عن الاهتمام والانشغال بالدّنيا قلبيًّا وعمليًّا كلّما اقترب من عالم الكرامة بغضّ
النّظر عمّا كان يملكه أو لا يملكه في هذه الحياة الدّنيا.
يقول (عليه السّلام): "فَإِنَّ اللَّه جَعَلَ مُحَمَّدًا (صلّى الله عليه وآله)
عَلَمًا لِلسَّاعَةِ، ومُبَشِّرًا بِالْجَنَّةِ ومُنْذِرًا بِالْعُقُوبَةِ، خَرَجَ
مِنَ الدُّنْيَا خَمِيصًا ووَرَدَ الآخِرَةَ سَلِيمًا، لَمْ يَضَعْ حَجَرًا عَلَى
حَجَرٍ، حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِه وأَجَابَ دَاعِيَ رَبِّه، فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ
اللَّه عِنْدَنَا، حِينَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِه سَلَفًا نَتَّبِعُه وقَائِدًا
نَطَأُ عَقِبَه، واللَّه لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هَذِه حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ
مِنْ رَاقِعِهَا، ولَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ أَلَا تَنْبِذُهَا عَنْكَ، فَقُلْتُ
اغْرُبْ عَنِّي فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى"[4].
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
[1] نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، ص226.
[2] سورة القصص، الآية 24.
[3] نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، ص226.
[4] نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، ص229.