مِنْ خَبَرِ ضِرَارٍ عِنْدَ دُخُولِهِ عَلَى مُعَاوِيَةَ ومَسْأَلَتِهِ لَهُ عَنْ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام، قَالَ: "فَأَشْهَدُ لَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي
بَعْضِ مَوَاقِفِهِ وقَدْ أَرْخَى اللَّيْلُ سُدُولَهُ وهُوَ قَائِمٌ فِي
مِحْرَابِهِ قَابِضٌ عَلَى لِحْيَتِهِ يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ السَّلِيمِ،
ويَبْكِي بُكَاءَ الْحَزِينِ، ويَقُولُ: يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا، إِلَيْكِ عَنِّي،
أَبِي تَعَرَّضْتِ أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ لَا حَانَ حِينُكِ هَيْهَاتَ غُرِّي
غَيْرِي، لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ، قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثاً لَا رَجْعَةَ فِيهَا
فَعَيْشُكِ قَصِيرٌ، وخَطَرُكِ يَسِيرٌ، وأَمَلُكِ حَقِيرٌ. آهِ مِنْ قِلَّةِ
الزَّادِ، وطُولِ الطَّرِيقِ، وبُعْدِ السَّفَرِ، وعَظِيمِ الْمَوْرِدِ"[1].
ترتبط عظمةُ بعض من يعظِّمه الناسُ في هذه الدنيا بجهةٍ من الجهاتِ التي يرونَها في
شخصه وهي تتعلّقُ بصفةٍ من صفاتِ الحياةِ الدنيويةِ والماديةِ، ولكنّ الإسلامَ
علَّمنا أنّ عظمةَ الإنسانِ ترتبطُ بتقواه وعلاقتِه بربِّه وما يحملُه من صفاتٍ
تُمثِّلُ تجليّاً لصفاتِ الكمالِ الإلهي، وفي شخصيّةِ أميرِ المؤمنينَ عليه السلام
اجتمعت العظمةُ بأجلى صورِها، ففي العلمِ والشجاعةِ والتقوى والحكمةِ وغيرِها تجد
مرتبةً لم يسبقْه فيها أحدٌ من الناسِ إلا رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله.
ومن الصّفاتِ التي تُمثِّلُ كمالاً يُقتدى به في شخصيّةِ عليٍّ عليه السلام ما
يرتبطُ بعلاقتِه بربِّه وعبوديتِه له، فهو الذي يضربُ بسيفِه في الحروبِ فلا
يُدانيه أحدٌ في الشجاعةِ، وهو الذي يقفُ بين يدي ربّه في الليلِ فيطيلُ البكاءَ
والتذلُّلَ للهِ عزَّ وجلَّ، ويصفُ الإمامُ حالَه حيث قِيلَ لَهُ عليه السلام:
كَيْفَ نَجِدُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عليه السلام: "كَيْفَ يَكُونُ
حَالُ مَنْ يَفْنَى بِبَقَائِهِ، ويَسْقَمُ بِصِحَّتِهِ ويُؤْتَى مِنْ مَأْمَنِهِ"[2].
فحقيقةُ الدنيا بيّنةٌ تماماً لدى الإمامِ لا يُمكنُها أنْ تخدعَه فهو في مأمنٍ من
مكائِدها، والوقوعِ في مصيدتِها لأنّها لا تعدلُ شيئاً لديه: "وإِنَّ دُنْيَاكُمْ
عِنْدِي لأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا مَا لِعَلِيٍّ
ولِنَعِيمٍ يَفْنَى، ولَذَّةٍ لَا تَبْقَى، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُبَاتِ
الْعَقْلِ وقُبْحِ الزَّلَلِ وبِهِ نَسْتَعِينُ"[3].
بل كلُّ فعلٍ يقومُ به الإمامُ لم يكنْ ليقصدَ به هذه الدنيا، بل يريدُ به وجهَ
اللهِ عزَّ وجلَّ يقولُ (عليه السلام): "اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ
يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ، ولَا الْتِمَاسَ شَيْءٍ
مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ، ولَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ، ونُظْهِرَ
الإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ، فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ، وتُقَامَ
الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَنَابَ، وسَمِعَ
وأَجَابَ، لَمْ يَسْبِقْنِي إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ
بِالصَّلَاةِ"[4].
إنّ محبةَ أميرِ المؤمنينَ عليه السلام في قلوبِ شيعتِه ومواليه تفترضُ عليهم أن لا
يَغفلوا أبداً عن متابعتِه في التعبّدِ لخالقِهم واستحضارِ نيةِ العملِ الخالصِ
لوجهِ اللهِ عزَّ وجلَّ لأنّهم بذلك يكونون معه في القومِ الذين وصفهم (عليه السلام)
في كلامٍ له فقال: "وإِنِّي لَمِنْ قَوْمٍ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ
لَائِمٍ، سِيمَاهُمْ سِيمَا الصِّدِّيقِينَ، وكَلَامُهُمْ كَلَامُ الأَبْرَارِ،
عُمَّارُ اللَّيْلِ ومَنَارُ النَّهَارِ. مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ
يُحْيُونَ سُنَنَ اللَّهِ وسُنَنَ رَسُولِهِ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ولَا يَعْلُونَ،
ولَا يَغُلُّونَ ولَا يُفْسِدُونَ. قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ، وأَجْسَادُهُمْ فِي
الْعَمَلِ"[5].
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
[1] نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، ص 480.
[2] المصدر نفسه، ص 489.
[3] المصدر نفسه، ص 347.
[4] المصدر نفسه، ص 189.
[5] المصدر نفسه، ص 302.