قال أميرُ المؤمنينَ عليه السلام:
عِبَادَ اللَّه إِنَّ تَقْوَى اللَّه حَمَتْ أَوْلِيَاءَ اللَّه مَحَارِمَه،
وأَلْزَمَتْ قُلُوبَهُمْ مَخَافَتَه، حَتَّى أَسْهَرَتْ لَيَالِيَهُمْ وأَظْمَأَتْ
هَوَاجِرَهُمْ، فَأَخَذُوا الرَّاحَةَ بِالنَّصَبِ والرِّيَّ بِالظَّمَأ،
واسْتَقْرَبُوا الأَجَلَ فَبَادَرُوا الْعَمَلَ،وكَذَّبُوا الأَمَلَ فَلَاحَظُوا
الأَجَلَ.
لا بدّ لتحقُّقِ ملَكَةِ التقوى في نفسِ الإنسانِ من أن يَبذلَ جهداً خاصاً من
الإِعراضِ عن الدنيا والعزوفِ عن بعضِ الأمورِ التي ترغبُ النفسُ فيها وتميلُ إليها
من علائقِ هذه الدنيا، فلا بدّ لحقيقةِ التقوى من أن تنفُذَ إلى داخلِ القلبِ، حتّى
يتمكَّنَ صاحبُ التقوى من أن يحصدَ نتائجَها وثمارَها.
ويُبيِّنُ الإمامُ صفاتِ أصحابِ التقوى وهم "أَوْلِيَاءُ اللَّه" الذين شكّلت
التقوى لهم حصناً يحميهم ويمنعُ أذى المعاصي من النفوذِ إلى ساحتِهم، وجعلتْهم في
حالِ خوفٍ دائمٍ ومستمرٍ من مخالفةِ ما يريدُه اللهُ عزَّ وجلَّ.
ويصفُ عليه السلام فعلَ التقوى فيهم على مستوى السلوك فهي:
1- أَسْهَرَتْ لَيَالِيَهُمْ: فالعبادةُ
والاشتغالُ بذكرِ اللهِ أو بما فيه رضى اللهِ عزَّ وجلَّ يُشغلُهُم عن النومِ الذي
تتطلّبُه النفسُ الكسولةُ، قال تعالى واصفا هؤلاء: "تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ
الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنفِقُونَ"، وفي كلمةٍ أخرى للإمام عليه السلام يقولُ واصفاً صاحبَ التقوى:
"وأَسْهَرَ التَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِهِ".
2- أَظْمَأَتْ هَوَاجِرَهُمْ: فالمواظبةُ على الصومِ في النهارِ
والابتعادُ عن الملذّاتِ التي تمنعُهم من ذكرِ اللهِ عزَّ وجلَّ جعلتْهم في حالِ
عطشٍ ولكنّه في سبيلِ اللهِ وسعياً لرضاه.
3- استبدالُ الراحةِ بالتعبِ: النفسُ بطبعِها
تميلُ إلى الراحةِ ولكنْ أصحابُ التقوى استبدلوا ذلك ببذلِ الجهدِ في سبيلِ طاعةِ
اللهِ، فأهلُ الجهادِ مثلاً أعرضوا عن راحةِ النفسِ في بيوتِهم واستبدَلُوها بأداءِ
التكاليفِ الصعبةِ فكانت سهلةً هيّنةً لديهم.
4- المبادرةُ للعملِ:
لا يعيشُ أهلُ التقوى حالَ التسويفِ والكسلِ، بل المسارعةِ المستمرّةِ
إلى فعلِ الخيرِ والتقرّبِ إلى اللهِ هي العادةُ لديهم. وذلك كلُّه لأنّهم عرفوا
حقيقة أنَّ العمرَ مهما طال بهم فإنّ مدَّةَ الحياةِ قصيرةٌ ولا بُدَّ لهم من
الإسراعِ في الاستفادةِ منها للتزوّدِ للآخرةِ.
5- كذَّبوا الآمالَ:
فالآمالُ تجعلُ الإنسانَ يقعُ في التسويفِ والتأخيرِ، ولكنْ أهلُ التقوى وبما
لديهم من يقينٍ بالآخرةِ فإنّ أنظارَهم متوجّهةٌ إلى المعادِ وآمالَهم معلّقةٌ بوعدِ
اللهِ تعالى لهم وليس بهذه الدنيا الزائفةِ الزائلةِ، وبهذا يُدركُ أهل التقوى أنَّ
كلَّ أملٍ يرتبطُ بهذه الدنيا فإنّ نهايته الانقطاع والزوال، ولذا لا يتعلّقون به.
إنَّ ثمرةَ كلِّ هذا الجهدِ والعناءِ سوف تظهرُ وتبرزُ في يومِ القيامةِ، ويصفُ ذلك
الإمامُ عليه السلام فيقولُ: "وسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى
الْجَنَّةِ زُمَراً". قَدْ أُمِنَ الْعَذَابُ، وانْقَطَعَ الْعِتَابُ وزُحْزِحُوا
عَنِ النَّارِ، واطْمَأَنَّتْ بِهِمُ الدَّارُ، ورَضُوا الْمَثْوَى
والْقَرَارَ،الَّذِينَ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا زَاكِيَةً،
وأَعْيُنُهُمْ بَاكِيَةً، وكَانَ لَيْلُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ نَهَاراً، تَخَشُّعاً
واسْتِغْفَارًا وكَانَ نَهَارُهُمْ لَيْلاً، تَوَحُّشاً وانْقِطَاعاً. فَجَعَلَ
اللَّهُ لَهُمُ الْجَنَّةَ مَآباً، والْجَزَاءَ ثَوَاباً، "وكانُوا أَحَقَّ بِها
وأَهْلَها" فِي مُلْكٍ دَائِمٍ، ونَعِيمٍ قَائِمٍ.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين