عن أمير المؤمنين عليه السلام: "وعَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اللَّه عِبَادَه
الْمُؤْمِنِينَ، بِالصَّلَوَاتِ والزَّكَوَاتِ، ومُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي
الأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ، تَسْكِيناً لأَطْرَافِهِمْ وتَخْشِيعاً لأَبْصَارِهِمْ،
وتَذْلِيلًا لِنُفُوسِهِمْ وتَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ، وإِذْهَاباً لِلْخُيَلَاءِ
عَنْهُمْ"[1].
من عنايةِ اللهِ عزَّ وجلَّ بعبادهِ أنْ دعاهم إلى الإيمانِ وجعلَه باختيارِهم،
ولكنّه حَذَراً من ضياعِ ذلك عليهم أو ضعفهِ في نفوسِهم أوجدَ لأهلِ الإيمانِ
الوسائلَ المناسبةَ الموصلةَ لهم إلى الحفاظِ على هذا الايمانِ وتثبيتهِ في نفوسِهم
حتى لا تزلَّ وتذهبَ في التيهِ والضلالِ، وهذا الإيمانُ إذا ترسّخَ في النفسِ فلن
يؤديَ تقلّبُ الأحوالِ وشدّةُ الخناقِ إلى التبديل ممنْ عاهدَ اللهَ على التصديقِ.
ومن الوسائل ما وردَ في حديثِ أميرِ المؤمنينَ عليه السلام عن العباداتِ التي
تُثمر في الإنسانِ فوائدَ مترتّبة عليها، ومن هذه العبادات الصيام:
1ـ الصومُ جهادٌ: لأنّ فيه محاربةً للنفسِ عمّا تميلُ إليه وترغبُ فيه؛ ولا سيّما
إذا ارتقى الإنسانُ في صيامِه إلى الصيامِ الأخلاقيِّ؛ والذي يعني تجنّبَ مساوئِ
الأخلاقِ وعدمَ الاقتصارِ على تجنُّبِ المفطِّراتِ التي توجبُ بطلانَ الصومِ.
2ـ تسكينُ أطرافِ المؤمنينَ: فالجوارحُ والأعضاءُ تهدأُ نتيجةَ قيامِها بهذه
العبادةِ، وهي بذلك تخضعُ للهِ ولا تقعُ في المعصيةِ.
3ـ تخشيعُ الأبصارِ: فالأبصارُ تخضعُ بالطاعةِ للهِ فلا تقعُ في المعصيةِ، وهذا
ينبعُ من خوفِها من المعصيةِ وما فيها من البُعدِ عن اللهِ عزَّ وجلَّ.
4ـ تذليلُ النفوسِ: فعبادةُ الصومِ تجعلُ هذه النفوسَ طيّعةً لفعلِ الخيرِ فتنقادُ
للطاعةِ ولا تتكبّرُ عليها.
5ـ تخفيضاً للقلوبِ: فمنْ يؤدّي هذه العباداتِ يشعرُ بعظمةِ اللهِ وصِغَرِ نفسِه.
6ـ إذهابُ الخيلاءِ: فهي تنفي الكِبْرَ، ففي الصومِ امتثالٌ وطاعةٌ من خلال
الإبتعادِ عن مجموعةٍ من الأفعالِ وهو مظهر للعبوديةِ للهِ عزَّ وجلَّ.
إنّ الذي يأنسُ بهذه العبادةِ ينصرفُ عن الاهتمامِ بهذه الدنيا ولا يعودُ كسائرِ
الناسِ بل يكونُ مصداقاً لقولِ الإمامِعليه السلام : "لَا تَسْتَوْحِشُوا فِي
طَرِيقِ الْهُدَى لِقِلَّةِ أَهْلِه، فَإِنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى
مَائِدَةٍ شِبَعُهَا قَصِيرٌ، وجُوعُهَا طَوِيلٌ"[2].
ومنْ مصاديقِ أهلِ الأنسِ بالإيمانِ والعملِ الصالحِ السيّدةُ خديجةُ بنتُ خويلد
زوجُ الرسولِ ووالدةُ البتولِ التي وقفتْ مع النبيِّ صلّى الله عليه وآله في مواجهةِ
قريش وطغيانِها، لم تستوحشْ بل نالتْ بإيمانِها منزلةً خاصةً في الدنيا والآخرةِ.
في روايةِ أمِّ سلمة: لمّا ذكَرنا خديجةَ بكى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله ثم
قال: "خديجةُ وأينَ مثلُ خديجةَ، صدّقتني حين كذّبني الناسُ وآزرتني على دينِ اللهِ
وأعانتني عليه بمالِها، إنّ اللهَ عزّ وجلَّ أمرني أنْ أُبشِّر خديجةَ ببيتٍ في
الجنةِ من قصبٍ (الزمرد) لا صخَبَ فيه ولا نصَب"[3].
وكانت وفاتُها سلامُ اللهِ عليها في العاشرِ من شهرِ رمضانَ قبلَ الهجرةِ النبويّةِ
بثلاثِ سنين، لم يتزعزعْ إيمانُها برسولِ اللهِ لحظةً بل كانت معه لمّا حاصرَ
المشركونَ بني هاشم في شِعبِ أبي طالب، تدفعُ عنه الأذى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
[1] نهج البلاغة، ص 294.
[2] المصدر نفسه، ص 319.
[3] الشيخ الإربلي، كشف الغمة، ج1، ص 360.