عن أمير المؤمنين عليه السلام: "مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ، ومَنْ
شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا"[1].
عندما يُلقى على عاتقِ الإنسانِ مسؤوليةٌ من المسؤولياتِ، ويُدعى لحملِها، فإنّ
أخطرَ ما يواجهُه أنْ تُسوِّلَ له نفسُه أنّ له فضلاً بذلك على غيرِه، وأنّه أصبحَ
في رتبةٍ أعلى من سائرِ الناسِ، وهذا الترفّعُ يأخذُه إلى مهالكَ عديدةٍ ولعلَّ
أعظمَها أنْ لا يستمعَ إلى غيرِه، وأنْ يستبدَّ برأيه، وهذا ما حذّرَ منه الإمامُ
في حديثهِ المرويِّ أعلاه.
ويُبيّنُ الإمامُ عليه السلام فائدةَ مشاورةِ الناسِ وتقليبِ وجوهِ الرأي معهم
بأنّه يفتحُ البابَ للوصولِ إلى الغاياتِ والأمورِ المطلوبةِ، ويُحقّقُ نجاحاتٍ في
عملِ الإنسانِ، لا سيّما إذا كان العملُ شأناً عامّاً لا يرتبطُ بمصالحَ خاصّةٍ.
يقولُ عليه السلام في كتابهِ لمالك الأشتر: "وأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ،
ومُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ، فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلَادِكَ،
وإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ"[2].
بل وبالمقارنةِ بين الاستشارةِ وبين سائرِ الوسائلِ التي تُعينُ على الوصولِ إلى
المطلوبِ؛ تتقدّمُ المشاورةُ على غيرِها في جانبِ الإعانةِ وتقديمِ ما يلزم، ولذا
يقولُ عليه السلام: "ولَا ظَهِيرَ كَالْمُشَاوَرَةِ"[3].
والحكمةُ في ذلك أنّه عندما تتعدَّدُ الآراءُ في المسألةِ يتبيّنُ الصوابَ من الخطأِ
أكثرَ من تلك الحالاتِ التي يكونُ الإنسانُ فيها أمامَ رأيٍ واحدٍ، يقول عليه
السلام: "مَنِ اسْتَقْبَلَ وُجُوهَ الآرَاءِ عَرَفَ مَوَاقِعَ الْخَطَأِ"[4].
نعم ينبغي حسنُ الاختيارِ لأهلِ المشورةِ فلا يختار أيَّ أحدٍ من الناسِ؛ ويُرشدُنا
الإمامُ في روايةٍ أخرى إلى صفاتِ هؤلاء المستشارين فيضعُنا أمامَ صفاتٍ أربعٍ: عقلٍ
وعلمٍ وتجربةٍ وحزمٍ، وافتقادُ واحدةٍ من هذه توردُ نقصاً في الرأي ولا يؤدّي إلى
المطلوب. فيقول عليه السلام: "خيرُ من شاورتَ ذوو النّهى والعلمِ وأولو التجاربِ
والحزمِ"[5].
كما إنّ من الصفاتِ المطلوبةِ في المستشارِ أنْ يكونَ ممَّنْ يعيشُ التقوى في نفسِه
فيخافُ اللهَ عزَّ وجلَّ، يقولُ الإمامُ في كلامٍ له: "شاورْ في حديثِك الذين
يخافونَ اللهَ"[6].
كما يُحذّرُ الإمامُ في المقابلِ من استشارةِ من يحملُ صفاتٍ هي: البخلُ والجبنُ
والحرصُ، ففي عهدِ أميرِ المؤمنينَ عليه السلام إلى مالك الأشتر : "ولَا
تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ، ويَعِدُكَ
الْفَقْرَ، ولَا جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الأُمُورِ، ولَا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ
الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ، فَإِنَّ الْبُخْلَ والْجُبْنَ والْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى
يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ"[7].
فالتوفيقُ من عند الله عزَّ وجلَّ، ولكنَّ الأخذَ بأسبابِه بيدِ الإنسانِ، فمتى تركَ
الاستبدادَ بالرأيِ فقد جانبَ الهلكةَ، ومتى أخلصَ النيةَ للهِ قاربَ الفوزَ، ومتى
استشارَ الناسَ اقتربَ من تحقيقِ غاياتهِ، ولأنّه يصلُ إلى الغايةِ في ذلك وصفَ
أميرُ المؤمنينَ المشورةَ فقال: "والِاسْتِشَارَةُ عَيْنُ الْهِدَايَةِ"[8].
وأمّا منِ اجتنبَ ذلك ونظرَ إلى نفسهِ بعينِ الغنى عن معرفةِ وجوه الرأيِ في
القضايا التي يواجهُها فإنّه سوفَ يقعُ في المخاطرةِ وهذا ما وصفَه الإمامُ عليه
السلام بقوله: "قد خاطرَ بنفسِه منِ استغنى برأيِه"[9].
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
[1] نهج البلاغة، تحقيق
صبحي الصالح، ص 500.
[2] المصدر نفسه، ص 431.
[3] المصدر نفسه، ص 478.
[4] المصدر نفسه، ص 501.
[5] التميمي الآمدي، تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، ص 442.
[6] ابن شعبة الحراني، تحف العقول عن آل الرسول صلّى الله عليه وآله، ص 368.
[7] نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، ص 430.
[8] المصدر نفسه، ص 506.
[9] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج 4، ص 388.