قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي
اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ
فُلاَناً خَلِيلاً *لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ
الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُول﴾.
وردَ في تفسيرِ هذه الآياتِ أنَّ رجلاً في الجاهليةِ يُدعى عقبةَ بنَ أبي معيط كان
يُقيمُ الموائدَ عندما يعودُ من أسفارِهِ ويدعو الناسَ إليها، واستضافَ النبيَّ
صّلى الله عليه وآله مرّةً إلى مائدتِه هذه واستفادَ النبيُّ صّلى الله عليه وآله
من ذلك لدعوتِه إلى الإسلام وأعلنَ عقبةُ إسلامَه، وبعدَ ذلك التقى بصاحبٍ له يُدعى
أُبَيْ بنَ خَلَف، قد تمثّلَ بدورِ الشيطانِ فلامَهُ على إسلامِه واتّباعِه النبيَّ،
فبادرَ عقبةُ إلى الارتدادِ والكفرِ ثانيةً بل ذهبَ إلى أذيَّةِ النبيِّ صّلى الله
عليه وآله بما أمكنَهُ من أنواعِ الأذى، فنزلتْ الآياتُ تتحدَّثُ عن الحالِ التي
سوفَ يصيرُ إليها في يومِ القيامةِ.
وما تتحدّثُ عنه الآياتُ هو مشهدٌ متكررٌ يقعُ فيه الناسُ، وتُحذّرُ من ذلك من خلالِ
صورةٍ أخرويةٍ تُشكِّلُ عاقبةً لهذا الفعلِ، وهي الضلالُ الذي يأتي بسببِ القرينِ
أي الرفيقِ والصاحبِ السيّءِ الذي يقودُ الإنسانَ إلى الضلالةِ، وفي تفصيلِ المشهدِ
الأخرويِّ هذا نجدُ التالي:
1- بدايةً تتحدّثُ الآيةُ عن الندمِ الشديدِ بصورةِ شخصٍ يعضُّ على يديهِ حسرةً
وتأسُّفاً لأنّ تدارُكَ ما وقعَ فيه من ذنوبٍ وآثامٍ لم يَعُدْ ممكناً عندَ الوقوفِ
بين يدي العزيزِ الجبارِ.
2- تُبيّنُ الآيةُ الكريمةُ أنّالهدى قد اتّضحَ وبانَ وانكشفَ ولم يكنْ خافياً على
هذا الإنسانِ الذي ضلَّ عن الهدى.
3- سوف يُبرِّرُ الإنسانُ ما وقعَ فيه بأنّه بسببِ صديقِ سوءٍ أردى به في الضلالةِ،
وأنّ هذا الصديقَ كان شيطاناً حتى لو كان هذا الصديقُ إنساناً في نشأتِهِ الماديّةِ.
4- إنَّ هذا الشيطانَ الذي كان يُمارسُ دورَ الإضلالِ في هذه الدنيا سوفَ يتبرَّأُ
من كلِّ من اتّبَعَهُ يومَ القيامةِ ولن يتحمّلَ عنه شيئاً من ذنوبهِ وآثامهِ،
﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا
الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ﴾. فسببُ الضلالِ هو البعدُ عن اللهِ
عزَّ وجلَّ وغفلةُ القلبِ التي أوقعتِ الإنسانَ في اتّباعِ أهلِ الضلالِ، قال تعالى:
﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ
قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ
الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾.
وفي مشهدٍ مقابلٍ تتحدّثُ الآياتُ عن صاحبِ الهدى الذي دخلَ الإيمانُ إلى قلبهِ
فوقاه ذلك من اتّباعِ الشيطانِ القرينِ الذي كان يوسوسُ له، قال تعالى: ﴿قَالَ
قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ
الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا
لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ
الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِي * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ
رَبِّي لَكُنتُ مِنْ الْمُحْضَرِينَ﴾.
وهذا المشهدُ يتكرّرُ مع كلِّ رايةِ هدى في كلِّ زمانٍ، فمنْ يتخلّفْ عنها اتّباعاً
منهُ لجماعةِ سوءٍ تُحيطُ به سوفَ يكونُ مصيرُه الندمَ في يومِ القيامةِ ومن
يتّبعْها ويسيرْ خلفَها مجرِّداً نفسَه من كلِّ هوى وضلالٍ سوف يكونُ من أهلِ
النجاةِ.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين