وردَ في الروايةِ أنّ الإمامَ الحسين(عليه السلام) وفي اللحظاتِ الأخيرةِ من حياتِه
نادى: »صَبْراً عَلى قَضائِكَ يا رَبِّ! لا إِلهَ سِواكَ، يا غِياثَ
الْمُسْتَغيثينَ، ما لي رَبٌّ سِواكَ، وَلا مَعْبُودٌ غَيْرُكَ، صَبْراً عَلى
حُكْمِكَ يا غِياثَ مَنْ لا غِياثَ لَهُ، يا دائِماً لا نَفادَ لَهُ، يا مُحْيِيَ
الْمَوْتى، يا قائِماً عَلى كُلِّ نَفْس بِما كَسَبَتْ، اُحْكُمْ بَيْني
وَبَيْنَهُمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الْحاكِمينَ».
مِنْ بينِ القيمِ الإسلاميّةِ الّتي تجلّتْ في كربلاءَ قيمةُ الصبرِ بما يعنيه من
تحمُّلٍ للشدائدِ والمصاعبِ وعدمِ النظرِ في ذلك كلِّه إلّا لوجهِ اللهِ _ عزَّ وجلّ_.
وللصبرِ في مسيرِ الإمامِ الحسين (عليه السلام) تجلّياتٌ كثيرةٌ ولكنْ من أعظمها
كان في شخصيّةِ الإمامِ الّتي لم تَنثنِ على الرغمِ من أنّ الكثيرَ من النّاسِ كان
يُشيرُ على الإمامِ (عليه السلام) أنْ يتركَ النهوضَ في وجهِ الظّلمِ والطغيانِ
وبحُججٍ متعدّدةٍ، وهذا ما تكرَّر في مواقفَ مختلفةٍ منذ بدايةِ خروجِه من المدينةِ
المنوّرةِ، ومن أصنافٍ متعدّدةٍ من الناسِ من المقرّبينَ وغيرِهم، ولا سيّما مع
تبدُّلِ الأحداثِ وتغيّرِ الظروفِ، يقولُ الإمامُ الخامنئيُّ (دام ظلّه): «ليس
الصبرُ في أن يتعرّضَ الإنسانُ للتعذيبِ أو يتعرّضَ أبناؤه للتعذيبِ أو القتلِ أمامَ
عينيه ويصمدَ فحسب - وإنْ كانت هذه واحدةً من مراحلِ الصّبرِ المهمّةِ - إلّا أنّ
الأهمَّ من ذلك (أن يصبرَ على) الوساوسِ والمواقفِ التي قد تبدو في ظاهرِها، بنظرِ
البعضِ، منطقيّةً فتصدُّ المرءَ عن مواصلةِ الطريقِ، وذاك ما فعلوهُ مع الإمامِ
الحسينِ (عليه السلام) حين قالوا له: إلى أينَ أنت ذاهبٌ؟ إنّك تعرِّضُ نفسَك
وأهلَك للخطرِ، وتدفعُ العدوَّ لأنْ يتجرّأَ وتتطاولَ أيديهم على دمائِك. وكلُّ من
جاءَ إلى الإمامِ الحسينِ (عليه السلام) وضعَ قرارَ الإمامِ (عليه السلام) وتصميمَه
في مواجهةِ هذا المحظورِ الأخلاقيَّ، وهو: إنّك بخطوتِك هذه إنّما تخاطِرُ بأرواحِ
فئةٍ من النّاسِ وتجعلُ العدوَّ أكثرَ تسلّطاً وتدفعُه لأنْ يُلطّخَ يديه بدمائِك».
[1]
ولذا؛ يُواجه أصحاب الحقِّ خطرَ الذين يَظهرون بمظهر النَّاصحين لجعلهم يَتراجعون
عن الجِهاد وبذْلِ الغالي والنفيس بِعُذر عدم الثمرة من القيام والنهوض، ويصِف
الإمامُ أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام) أهلَ الجهادِ والثباتِ في القتالِ فيقولُ:
«فَإِنَّ الصَّابِرِينَ عَلَى نُزُولِ الْحَقَائِقِ، هُمُ الَّذِينَ يَحُفُّونَ
بِرَايَاتِهِمْ، ويَكْتَنِفُونَهَا حِفَافَيْهَا ووَرَاءَهَا وأَمَامَهَا، لَا
يَتَأَخَّرُونَ عَنْهَا فَيُسْلِمُوهَا، ولَا يَتَقَدَّمُونَ عَلَيْهَا
فَيُفْرِدُوهَا»، ولذا كان موقفُ الإمامِ الحسينِ(عليه السلام) مواجهةَ الأحداثِ
بإباءٍ وشموخٍ، فلم يدخلْ الوهنُ إلى الحسينِ(عليه السلام) وأصحابِه رغمَ عِظَمِ
الأنباءِ التي بدأتْ تتوالى بخذلانِ أهلِ الكوفةِ، وشهادةِ مسلمٍ بنِ عقيلٍ، ولذا
كان من خطابِ الحسينِ(عليه السلام) في كربلاءَ قولُه: «أَلا إِنَّ الدَّعِيَّ
ابْنَ الدَّعيّ قَدْ رَكَزَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ، بَيْنَ الْقَتَلَةِ وَالّذِلَّةِ،
وَهَيْهاتَ مِنّا أَخْذُ الدَّنيَّةِ، أَبَى اللهُ ذلِكَ وَرَسُولُهُ، وَجُدوُدٌ
طابَتْ، وَحُجُورٌ طَهُرَتْ، وَأُنُوفٌ حَمِيَّةٌ، وَنُفُوسٌ أَبِيَّةٌ، لا تُؤْثِرُ
طاعَةَ اللِّئامِ عَلى مَصارِعِ الْكِرامِ، أَلا إِنّي قَدْ أَعْذَرْتُ وَأَنْذَرْتُ،
أَلا إِنّي زاحِفٌ بِهذِهِ الأُسْرَةِ عَلى قِلَّةِ الْعَتادِ، وَخَذْلَةِ
الأْصْحابِ».
وآخِرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربّ العالمين
[1](في لقاء أعضاء مجلس خبراء القيادة، 23/12/1380ش- 14/3/2002 م).