عن أمير المؤمنين (ع): «فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا
إِبْلِيسَ اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ،
وتَعَصَّبَ عَلَيْهِ لأَصْلِهِ، فَعَدُوُّ اللَّهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ،
وسَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ،ونَازَعَ
اللَّهً رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ، وادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ، وخَلَعَ قِنَاعَ
التَّذَلُّلِ».
إنّ من أخطر مساوئ الاخلاق -التي لا يتحدّد ضررها بالمستوى الشخصيّ للإنسان، بل
يتعدّاه إلى المجتمع الإنسانيّ- هي العصبيّة التي تفتك بالإنسان نفسه؛ فتجعله صريعاً
بين يدَي الشيطان يقلّبه كيف يشاء، ويتحوّل المتعصّب الى أداة بِيَد الشيطان ينفث
به على الناس فيضلّهم ويبعدهم عن الهدى.
والعصبيّة هي داء ينشأ من التكبّر، حيث يرى الإنسان نفسه أعظم شأناً وأعلى قدراً من
غيره، فيتعصّب لنفسه، أو يرى قومه أعظم وأفضل فيتعصّب لهم، وهي أساس وضعه إبليس كما
ورد في الرواية أعلاه.
أمّا على المستوى الفرديّ؛ فقد حكى الله -عزّ وجلّ- لنا قصّة ابني آدم: ﴿وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ
مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ
إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾.
العصبيّة إذاً جعلت الإنسان يقع في الحسد؛ فيقتل أخاه ويصف أمير المؤمنين (عليه
السلام) ذلك فيقول: «ولَا تَكُونُوا كَالْمُتَكَبِّرِ عَلَى ابْنِ أُمِّهِ مِنْ
غَيْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهِ سِوَى مَا أَلْحَقَتِ الْعَظَمَةُ
بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْحَسَدِ، وقَدَحَتِ الْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ
نَارِ الْغَضَبِ، ونَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ الْكِبْرِ الَّذِي
أَعْقَبَهُ اللَّهُ بِهِ النَّدَامَةَ، وأَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِينَ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
وعلى الإنسان أن يكون شديد الانتباه، وعلى يقظة دائمة من الوقوع في شراك الشيطان
هذا، فقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي
قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ وأَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّمَا
تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ
ونَخَوَاتِهِ، ونَزَغَاتِهِ ونَفَثَاتِهِ».
وعلى الإنسان الاعتبار أيضاً بما جرى في الأُمم السابقة، حيث كانت نهايتهم بسبب
العصبيّة التي أخذت من نفوسهم، فجعلتهم يعيشون البغضاء والعداوة، وهي من مكائد
الشيطان، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «فَاللَّهً اللَّهً فِي كِبْرِ
الْحَمِيَّةِ وفَخْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مَلَاقِحُ الشَّنَئَانِ ،
ومَنَافِخُ الشَّيْطَانِ ، الَّتِي خَدَعَ بِهَا الأُمَمَ الْمَاضِيَةَ ،
والْقُرُونَ الْخَالِيَةَ».
وما يقي الإنسان من فخّ العصبيّة؛ أمور وردت في الرواية عن أمير المؤمنين (عليه
السلام): «واعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَى رُؤوسِكُمْ ، وإِلْقَاءَ
التَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ ، وخَلْعَ التَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ
واتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ وبَيْنَ عَدُوِّكُمْ
إِبْلِيسَوجُنُودِهِ فَإِنَّ لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جُنُوداً وأَعْوَاناً ،
ورَجِلاً وفُرْسَاناً».
وفي المقابل، على الإنسان إن كان لابدّ وأن يتعصّب، فليكن للصفات الأخلاقيّة
الحسَنة وللحقّ، وقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «إِنْ كَانَ لَا بُدَّ
مِنَ الْعَصَبِيَّةِ، فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ، ومَحَامِدِ
الأَفْعَالِ ومَحَاسِنِ الأُمُورِ، ... فَتَعَصَّبُوا لِخِلَالِ الْحَمْدِ مِنَ
الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ، والْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ والطَّاعَةِ لِلْبِرِّ،
والْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ والأَخْذِ بِالْفَضْلِ، والْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ
والإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ، والإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ والْكَظْمِ لِلْغَيْظِ،
واجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ».