قَالَ أميرُ المؤمنينَ (ع): «الرُّكُونُ إِلَى الدُّنْيَا مَعَ مَا تُعَايِنُ
مِنْهَا جَهْلٌ، والتَّقْصِيرُ فِي حُسْنِ الْعَمَل إِذَا وَثِقْتَ بِالثَّوَابِ
عَلَيْه غَبْنٌ، والطُّمَأْنِينَةُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ قَبْلَ الِاخْتِبَارِ لَه
عَجْزٌ».
لقد حثَّ الإسلامُ على طلبِ العلمِ والمعرفةِ؛ لأنَّ ذلك ينعكس علىُ سلوكِ
الإنسانِ، فالمعرفةُ الصحيحةُ تُنتجُ سلوكًا سليمًا لو اتّبعَها الإنسانُ. ويبيّنُ
الإمامُ (ع)، في هذه الحكمةِ، بعضَ الحالاتِ العارضةِ لهذا الإنسانِ في هذه الحياةِ
الدنيا؛ ليُنبّهَه من غفلتِه، وكيف تذهبُ به إلى اتّخاذِ مواقفَ خاطئةٍ تكونُ سببًا
في هلاكِ.
1- الحالةُ الأولى: ويُحذِّرُ فيها الإمامُ
(ع) من الوقوعِ في المعاصي. فالإنسانُ يعيشُ في هذه الدنيا ويرى ما يحدثُ فيها، فهي
ترمي أهلَها دائمًا بالمصائبِ، من الفقرِ والمرضِ وغيرِهما، وتأخذُهم على حين غرّةٍ
فتغدرُ بهم، فتجدُ الإنسانَ يطمئنُّ إلى الدنيا متى أقبلتْ عليه تُعطيهِ مِن
خيراتِها حتّى يطمئنَّ إلى أنّه نالَها ولن تزولَ عنه، فتبدأُ مظاهرُ الترفِ
والبذخِ، وفجأةً، أو تدريجًا، يبدأُ بفقدِها؛ لأنَّ مصيرَها الحتميَّ هو الزوالُ،
بل حتّى الأمور الحسنة مصيرُها الزوالُ، ويُدرِكُ الإنسانُ تمامًا أنّها غيرُ
باقيةٍ. وهذا السلوكُ، ممّنْ علِمَ حقيقةَ الدنيا ثمّ اطمأنَّ إليها مع ما يعرِفُه
منها، يكونُ تصرُّفًا عن جهلٍ؛ لأنّه لا يُفكِّرُ فيما يراه ولا يُحسنُ النظرَ فيه،
والإنسانُ المدرِكُ لحقيقةِ هذه الدنيا لا يأسى على ما فاتَه، ولا يفرحُ بما أتاه.
2- الحالةُ الثانيةُ: ويحثُّ فيها الإمامُ (ع) على فعلِ الطاعاتِ.
فالإنسانُ الذي يثقُ بالثوابِ على فعلِ الخيرِ والطاعاتِ، ولكنّه لا يُحسِنُ
القيامَ بالعملِ ولا يأتيه على وجهِهِ الموجِبِ لنيلِ الثوابِ، هو المغبونُ؛
فالربحُ أمامَه ولكنّه لا يصلُ إليه مع إمكانِ أنْ يُدرِكَه؛ وذلك بسببِ تقصيرِه.
فمن يُؤمنْ بالثوابِ ويقصِّرُ فهو يغبنُ نفسَه، فيصرفُ عمرَه دونَ حُسنِ الأداءِ
فيما هو مطلوبٌ منه. وأمّا المتيقّنُ بالآخرةِ والثوابِ، والذي يؤدّي عملَه على
خيرِ وجهٍ، فهو الناجحُ والمستفيدُ؛ لأنَّه سوفَ يصلُ إلى مرحلةِ الحسابِ والثوابِ
في الآخرةِ.
وطبيعةُ الإنسانِ في هذه الدنيا أنْ يبحثَ عن مواطنِ الاكتسابِ للرزقِ والمالِ،
فإذا وثقَ به في مكانٍ بذلَ جهدَه في الوصولِ إليه، فكيف حالُنا مع الآخرةِ؟ ألم
نؤمنْ بما وعدَنا اللهُ -عزّ وجلّ- من ثوابٍ أزليٍّ؟
3- الحالةُ الثالثةُ: ويؤكّدُ فيها الإمامُ على الطريقةِ الصحيحةِ في
التعاملِ مع الناسِ؛ فمن يعتمدْ على قولِ أيِّ إنسانٍ دونَ أنْ يختبرَه في مدى
صدقهِ ومعرفتهِ، فهذا عجزٌ منه؛ لأنّه يحكي عن ضعفهِ وقلّةِ قدرتهِ على النظرِ في
مرحلةٍ سابقةٍ لازمةٍ، فعلى الإنسانِ، أوّلًا، تحصيلُ الاطمئنانِ ثمّ الاعتمادُ.
فالإمامُ يحثُّ على تحديدِ قدراتِ الأفرادِ وإمكاناتِهم ومدى وثاقتِهم من الذين
نتعاملُ معهم، عبرَ الاستيثاقِ، أوّلًا، في أنّه يُطمَأَنُّ إليهم أم لا.
وبين الحالاتِ الثلاثِ، التي تعرّضَ لها الإمامُ، ارتباطٌ؛ لأنّ الركونَ إلى الدنيا
يجعلُ الإنسانَ يقعُ في التقصيرِ مع علمهِ بالثوابِ المترتّبِ على العملِ، كما أنَّ
الاطمئنانَ إلى الدنيا، مع عدمِ تجربتِها واختبارِها، عجزٌ.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.