من وصيةٍ لأميرِ المؤمنينَ
(عليه السلام): "وابْدَأْ قَبْلَ نَظَرِكَ فِي ذَلِكَ بِالِاسْتِعَانَةِ
بِإِلَهِكَ، والرَّغْبَةِ إِلَيْه فِي تَوْفِيقِكَ"[1].
تنزعُ الطبيعةُ الماديةُ لهذا الإنسانِ عندما يريدُ القيامَ بأمرٍ ما إلى البحثِ عن
الأسبابِ الماديةِ والعملِ على توفيرِها لأجلِ الوصولِ إلى غاياتِه، ويغفلُ بعضُ
الناسِ عن مالكِ الأسبابِ كلِّها والذي بيدِه الأمورُ، ولذا يؤكّدُ الإمامُ (عليه
السلام) في وصيّتِه هذه على أهميةِ أنْ تكونَ الخطوةُ الأولى هي في الاستعانةِ
باللهِ، وذلك قبل البدءِ بأيِّ عملٍ، وهذه الاستعانةُ إذا توافرت بحقيقتِها ضمنتْ
التوفيقَ في الدنيا والآخرةِ.
وهذه الاستعانةُ تنشأُ أولاً من المعرفةِ الصحيحةِ باللهِ عزَّ وجلَّ المورِّثةِ
للثقةِ به تعالى والتي ترجعُ إلى مفهومِ الحاجةِ إليه تعالى، وقد وردَ عنه (عليه
السلام): "وأَسْتَعِينُهُ فَاقَةً إِلَى كِفَايَتِهِ إِنَّهُ لَا يَضِلُّ مَنْ
هَدَاهُ،... ولَا يَفْتَقِرُ مَنْ كَفَاهُ"[2]. ومن مظاهرِ هذه المعرفةِ
الإيمانُ بسعةِ قدرتِه وغلبتِه على الأسبابِ كلِّها، ورد عنه (عليه السلام): "وأَسْتَعِينُهُ
قَاهِراً قَادِراً"[3]. كما وردَ عنه في بيانِ حقيقةِ الاستعانةِ: "ونَسْتَعِينُ
بِهِ اسْتِعَانَةَ رَاجٍ لِفَضْلِهِ، مُؤَمِّلٍ لِنَفْعِهِ، وَاثِقٍ بِدَفْعِهِ،
مُعْتَرِفٍ لَهُ بِالطَّوْلِ، مُذْعِنٍ لَهُ بِالْعَمَلِ والْقَوْلِ"[4].
وللاستعانة مجالاتُها المتعددةُ والتي وردَ بيانُها في كلماتِ الإمامِ أميرِ
المؤمنينَ (عليه السلام):
1- أداءُ حقِّ اللهِ عزَّ وجلَّ، وذلك لأنَّ على الإنسانِ في مقامِ
عبوديتِه للهِ عزَّ وجلَّ حقوقاً لا بدَّ وأنْ يؤدِّيَها وتتمثّلُ في أحدِ مظاهرِها
بالعباداتِ المعروفةِ من الصلاةِ ونحوِها وأداءِ الحقوقِ الماليةِ وغيرِها، ويؤكّدُ
الإمامُ (عليه السلام) على ضرورةِ الاستعانةِ باللهِ في ذلك حيثُ وردَ عنه: "واسْتَعِينُوا
اللَّهَ عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِ حَقِّه، ومَا لَا يُحْصَى مِنْ أَعْدَادِ نِعَمِه
وإِحْسَانِه"[5].
2- مواجهةُ النفسِ الأمارةِ بالسوءِ والتي تدفعُ الإنسانَ إلى ارتكابِ الذنوبِ،
يقولُ (عليه السلام): "ونَسْتَعِينُهُ عَلَى هَذِهِ النُّفُوسِ الْبِطَاءِ
عَمَّا أُمِرَتْ بِهِ، السِّرَاعِ إِلَى مَا نُهِيَتْ عَنْهُ"، وفي نصٍّ آخر
وردَ عنه (عليه السلام): "عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللَّهِ
إِلَيْهِ عَبْداً أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ،
وتَجَلْبَبَ الْخَوْفَ فَزَهَرَ مِصْبَاحُ الْهُدَى فِي قَلْبِهِ"[6].
3- القيامُ بالمسؤولياتِ، فعندما يتصدّى الإنسانُ للقيامِ بأمرٍ من أمورِ
الناسِ، أو يوكَلُ إليه ذلك، فإنّ عليه مضافاً إلى الاهتمامِ وبذلِ الجهدِ في إتقانِ
العملِ والصبرِ، أن يستحضرَ دائماً طلبَ المعونةِ من اللهِ عزَّ وجلَّ على أداءِ
ذلك، وقد وردَ عنه (ع): "ولَيْسَ يَخْرُجُ الْوَالِي مِنْ حَقِيقَةِ مَا
أَلْزَمَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِالِاهْتِمَامِ والِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ،
وتَوْطِينِ نَفْسِهِ عَلَى لُزُومِ الْحَقِّ، والصَّبْرِ عَلَيْهِ فِيمَا خَفَّ
عَلَيْهِ أَوْ ثَقُلَ"[7].
4- التغلّبُ على المصاعبِ والمشقّاتِ والهمومِ التي تَرِدُ على الإنسانِ،
فلا يصحُّ اليأسُ مهما اشتدتْ أسبابُه، ولذا يؤكّدُ الإمامُ في مثلِ هذه المواردِ
على الإكثارِ من الاستعانةِ باللهِ، فقد وردَ عنه (عليه السلام): "وأَكْثِرِ
الِاسْتِعَانَةَ بِاللَّهِ يَكْفِكَ مَا أَهَمَّكَ، ويُعِنْكَ عَلَى مَا يُنْزِلُ
بِكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ "[8].
وختاماً يرشدُ الإمامُ إلى الوسيلةِ الأنجعِ والأهمِ في الاستعانةِ وهي التحلّي
بالتقوى، يقولُ (عليه السلام): "عِبَادَ اللَّهِ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ
فَإِنَّهَا حَقُّ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، والْمُوجِبَةُ عَلَى اللَّهِ حَقَّكُمْ، وأَنْ
تَسْتَعِينُوا عَلَيْهَا بِاللَّهِ، وتَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى اللَّهِ: فَإِنَّ
التَّقْوَى فِي الْيَوْمِ الْحِرْزُ والْجُنَّةُ، وفِي غَدٍ الطَّرِيقُ إِلَى
الْجَنَّةِ"[9].
[1] - (الكتاب 31)
[2] - الخطبة 2
[3] - الخطبة 83
[4] - الخطبة 183
[5] - الخطبة 99.
[6] - الخطبة 87
[7] - الكتاب 53
[8] - الكتاب 34
[9] - الخطبة 191