وردَ عن الإمامِ الصادقِ
(ع) أنّه كانَ يقولُ لأصحابهِ: "اتّقوا الله وكونوا إخوةً بررةً متحابّينَ في
اللهِ، متواصلينَ متراحمينَ، تزاوروا وتلاقوا وتذاكروا أمرَنا وأحيوه".
لقد وردَ في الكثيرِ من الرواياتِ المؤكّدةِ على التواصلِ والتراحمِ بين المؤمنينَ،
إلى الحدِّ الذي نظرتْ فيه تعاليمُ الدينِ إلى المؤمنينَ كجسدٍ واحدٍ، إذا اشتكى
أحدُهم ألماً أو أصابَه بلاءٌ شاركَه الجميعُ فيما أصابَه فكأنّه أصابَهم، وهذه
القاعدةُ إذا كانت هي الحاكمةُ بين المؤمنينَ أثبتَ ذلك سلامةَ الجسدِ وعافيَته.
ولكنْ كجزءٍ من طبيعةِ الإنسانِ قد يقعُ الخلافُ والاختلافُ وقد يصدرُ من بعضِ
المؤمنينَ خطأٌ في حقِّ بعضِهم الآخر، وتؤكّدُ تعاليمُ الإسلامِ على ضرورةِ مبادرةِ
المخطئِ إلى تداركِ خطئِه وجبرانِ ذلك، ومن مظاهرِ ذلك الاعتذارُ مِمّن وقعَ الخطأُ
عليه، وطلبُ العفوِ والصفحِ منه.
وكذلك أكّدتْ تعاليمُ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) على ضرورةِ العفوِ والصفحِ وقبولِ
العذرِ، ولأهميّةِ ذلك كان الحثُّ على قبولِ العذرِ حتّى لو لم تعلمْ أنّه صدرَ منه
عن صدقِ نيّةٍ، فقد وردَ عن أميرِ المؤمنينَ (ع): (لا تُصرمْ أخاك على ارتيابٍ،
ولا تقطعْه دون استعتابٍ لعلَّ له عذراً وأنت تلومُ إقبل من متنصِّلٍ عذراً - صادقاً
كان أو كاذباً - فتنالَك الشفاعةُ)[1].
ولأنَّ هذا الأمرَ قد لا ترغبُ به النفسُ بل يُخالفُ ميولَها ورغباتَها كان الحثُّ
على فرضِ ذلك على النفسِ ومخالفةِ الهوى، يقولُ أميرُ المؤمنينَ (ع): (احْمِلْ
نَفْسَكَ مِنْ أَخِيكَ عِنْدَ صَرْمِه عَلَى الصِّلَةِ، وعِنْدَ صُدُودِه عَلَى
اللُّطْفِ والْمُقَارَبَةِ، وعِنْدَ جُمُودِه عَلَى الْبَذْلِ، وعِنْدَ تَبَاعُدِه
عَلَى الدُّنُوِّ، وعِنْدَ شِدَّتِه عَلَى اللِّينِ، وعِنْدَ جُرْمِه عَلَى
الْعُذْرِ).
وفي تعدادِه لصفةِ من يتولّى قيادةَ الجندِ ونظراً لأهميّةِ قَبُولِ العذرِ يذكُر
الإمامُ صفةَ قَبُولِ العذرِ من ضمنِ تلك الصفاتِ فيقولُ: (فَوَلِّ مِنْ
جُنُودِكَ، أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لِلَّه ولِرَسُولِه ولإِمَامِكَ، وأَنْقَاهُمْ
جَيْباً وأَفْضَلَهُمْ حِلْماً، مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ ويَسْتَرِيحُ
إِلَى الْعُذْرِ)[2]، بل ترقى صفةُ الإنسانِ المؤمنِ أنْ لا يتوجَّه باللومِ
على من صدرَ منه خطأٌ بل يسعى للبحثِ عن العذرِ له وينتظرُه حتّى يسمعَ عذرَه، وقد
وردَ عن أميرِ المؤمنين في وصفِ أحدِ خلّصِ أصحابِه: (كَانَ لِي فِيمَا مَضَى
أَخٌ فِي اللَّه ... وكَانَ لَا يَلُومُ أَحَداً، عَلَى مَا يَجِدُ الْعُذْرَ فِي
مِثْلِه حَتَّى يَسْمَعَ اعْتِذَارَه).[3]
وقبولُ العذرِ يفترضُ على الإنسانِ أنْ يتجاوزَ فلا يُرتِّبْ على الخطإِ أثراً من
عداوةٍ أو قطيعةٍ وهو ما وردَ في الرواياتِ التعبيرُ عنه بإقالةِ الخطإِ والذنبِ،
أي ترفعُ عنه تبعاتِ ذلك حتى على المستوى النفسي والقلبي، وأمّا مَنْ لا يقبلُ
العذرَ ولا يتجاوزُ فإنّ وصفَه وردَ في بعضِ الرواياتِ بأنّه شرُّ الناسِ، فقد روي
عن أميرِ المؤمنينَ (ع): (شرُّ الناسِ من لا يقبلُ العذرَ ولا يُقيلُ الذنبَ)[4].
ووردَ في دعاءِ الإمامِ زينِ العابدينَ (ع) الدعاءُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ بأنْ
يتجاوزَ ويصفحَ عن حالاتِ عدمِ قبولِ عذرِ المعتذرِ - ففي الدعاءِ 38 من الصحيفةِ
السجاديةِ - : اللهمَّ إنّي أعتذُر إليكَ من مظلومٍ ظُلِمَ بحضرتي فلم أنصرْه
... ومن مسيءٍ اعتذرَ إليَّ فلم أعذرْه.
نسألُ الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعلَ المودةَ والرحمةَ في قلوبِنا حتّى نلقاه بوجوهٍ
مستبشرةٍ بالفوزِ برضاه.
[1] - وسائل الشيعة ( آل
البيت ) - الحر العاملي - ج 12 ص 217.
[2] - نهج، الكتاب 53.
[3] - نهج، الحكمة 9.
[4] - ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 2 ص 1421.