عن الإمامِ موسى بنِ جعفرٍ الكاظمِ (عليه السلام): «يا هشامُ إنّ العقلاءَ زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرةِ، لأنهم علموا أنّ الدنيا طالبةٌ ومطلوبةٌ، والآخرةَ طالبةٌ ومطلوبةٌ فمن طلَب الآخرِةَ طلبتْهُ الدنيا حتى يستوفي منها رزقَه ومن طلبَ الدنيا طلبتْهُ الآخرةُ فيأتيه الموتُ فيفسدُ عليه دنياه وآخرته».
يوصي الإمامُ الكاظمُ (عليه السلام) هشامَ بَنِ الحكمِ وهو من شيعتِه الخواصِ في زمانِه بالزهدِ في الدنيا، وهذا الزهدُ الذي بيّنَ حقيقتَه أميرُ المؤمنينَ في نهجِ البلاغةِ حيث يقولُ: «الزُّهْدُ كُلُّه بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّه سُبْحَانَه ﴿لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ ولا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ * ومَنْ لَمْ يَأْسَ عَلَى الْمَاضِي ولَمْ يَفْرَحْ بِالآتِي * فَقَدْ أَخَذَ الزُّهْدَ بِطَرَفَيْه﴾».
وهذا الزهدُ هو من عملِ العقلاءِ الذين امتلكوا المعرفةَ الصحيحةَ فأعقبوها بالعملِ الصحيحِ، ويُبيّنُ الإمامُ الكاظمُ (عليه السلام) حقيقةَ الدنيا والآخرةِ ببيانِ حالِ الإنسانِ فيها فإنّه إما أنْ يكونَ طالباً للدنيا أو أنْ يكونَ طالباً للآخرةِ:
1ـ الطالبُ للآخرةِ: فمن أدركَ حقيقةَ الآخرةِ وأنّها الحياةُ الحقيقيةُ التي ينبغي أنْ يسعى إليها، فإنّ كلّ همِّه سوف يكونُ الحصولَ عليها، وهو يعلمُ أنّ الدنيا دارُ التزوُّدِ لها فهو لا يطلبُ من الدنيا إلا ما كانت ثمرتُه زادِاً للآخرةِ، وهنا تكونُ الآخرةُ مطلوبةً ولكنّ الدنيا سوف تَكونُ طالبةً له، لأنّ الرزقَ الذي قدّرهُ اللهُ عزَّ وجلَّ له في هذه الدنيا سوف يصلهُ تاماً دون نقصٍ، ولذا لن يكونَ حريصاً عليها وعلى ما فيها.
ويصف أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام) هؤلاءِ في حياتِهم في الدنيا بقوله: «كَانُوا قَوْماً مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ولَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا، فَكَانُوا فِيهَا كَمَنْ لَيْسَ مِنْهَا، عَمِلُوا فِيهَا بِمَا يُبْصِرُونَ، وبَادَرُوا فِيهَا مَا يَحْذَرُونَ».
وفي وصيةٍ له (عليه السلام) لبعض عمّالِه يقولُ: «فليكنْ سرورُك بما نلتَ من آخرتِك، وليكن أسفُك على ما فاتَك منها، وما نلتَ من دنياك فلا تكثرْ به فرحاً، وما فاتَك منها فلا تأسَ عليه جزعاً».
2ـ الطالبُ للدنيا: وهو الذي اغترّ بها، وجعل كلَّ همِّه في الوصولِ إليها وهذا سوف يُضحّي بآخرتِه لأجلِ الدنيا، لأنّ حرصَه على امتلاكِ هذه الدنيا سوفَ يوقعُه في الحرامِ إذا كان سبيلُه إليها ذلك، وبذلك سوف تكونُ الدنيا مطلوبةً، وهنا تطلبُه الآخرةُ لأنّها المصيرُ النهائيُّ له مهما عمّرَ في هذه الدنيا، وعندما يأتيه الموتُ الذي هو لحظةُ الانتقالِ إلى الآخرةِ سوف تُهدَمُ دنياه لأنّها لحظةُ نهايتِها، وسوف تبدأُ رحلتُه في آخرتِه.
ويصفُ الإمامُ أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام) حالَ هذا الطالبِ للدنيا عندما يأتيه الموتُ فيقولُ: «يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمُرَهُ، وفِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ ويَتَذَكَّرُ أَمْوَالاً جَمَعَهَا، أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا، وأَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا ومُشْتَبِهَاتِهَا، قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا، وأَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا، تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا، ويَتَمَتَّعُونَ بِهَا، فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ، والْعِبْءُ عَلَى ظَهْرِهِ».
ومِنْ هوانِ هذه الدنيا على اللهِ عزَّ وجلَّ ما جرى على أهلِ بيتِ النبوّةِ من ظلمٍ، ومنه ظلمُ الخلفاءَ العبَاسيين لإمامِنا الكاظمِ (عليه السلام) والذي عاشَ لمُدَدٍ زمنيةٍ طويلةٍ في سجونِهم حتى كانت شهادتُه مسموماً في 25 رجب من عام 183 للهجرة.
ختاماً، نُعزّي وليَّ أمرِ المسلمينَ والمجاهدين جميعاً في ذكرى شهادةِ الإمامِ موسى بنِ جعفرٍ (عليهما السلام) ونسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يجعلَهُ شفيعاً لنا في الدنيا والآخرةِ.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين