قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾.
تشيرُ الآيةُ الكريمةُ لحادثةِ المباهلةِ، حيث جرى حوارٌ بين النبيِّ (صلى الله عليه وآله) ووفدٍ من نصارى نجران، ولمّا توجّه الوفدُ بالسؤالِ للنبيِّ (صلى الله عليه وآله)عن عيسى بنِ مريمَ (عليهما السلام)، قالَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إنّهُ عَبدُ اللهِ». ونزلتْ آيةُ المباهلةِ الكريمةُ حاملةً إجابةً وافيةً قاطعةً، وفيها دعوةٌ لمباهلةِ المصرّينَ على ادّعائِهم فيما يخصّ عيسى (عليه السلام). وتمَّ الاتفاقُ على المباهلةِ، تقولُ الروايةُ: وخرجَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وقد احتضنَ الحسينَ (عليه السلام)، وأخذَ بيدِ الحسنِ (عليه السلام)، وفاطمةُ (عليها السلام)، والإمامُ عليٍّ (عليه السلام) معه، وهو (صلى الله عليه وآله) يقولُ: «إذا دَعوتُ فأمِّنوا»، ولمّا رأى وفدُ النصارى ذلك تراجعَ عن المباهلةِ. وكان "يومُ المباهلةِ" في المدينةِ المنوّرةِ، في الرّابعِ والعشرينَ من ذي الحجّةِ العامِ العاشرِ للهجرةِ النبويّةِ.
وهذه الحادثةُ ذاتُ دلالاتٍ متعدِّدةٍ، وقد وردَ في كلماتِ العلماءِ الأعلامِ بيانُ ذلك، ومن أهمِّ هذه الدلالاتِ أنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله) جاءَ للمباهلةِ بالدليلِ المناسبِ مع المباهلةِ وهي المعيارُ الذي يميزُ به بين الحقِّ والباطلِ، يقولُ الإمامُ الخامنئيُّ: «اختارَ الرسولُ الأكرمُ أعزَّ الناسِ وجاءَ بهم إلى الساحةِ للمحاججةِ التي يُرادُ لها أن تكونَ مائزاً بين الحقِّ والباطلِ ومؤشِّراً نيِّراً أمامَ أنظارِ الجميعِ. لم يسبقْ أنْ أخذَ الرسولُ (صلى الله عليه وآله) في سبيلِ تبليغِ الدينِ وبيان الحقيقةِ يدَ أعزائِه وأبنائِه وابنتِه وأميرِ المؤمنينَ - وهو أخوه وخليفتُه - وأتی بهم إلى وسطِ الساحةِ. هذا هو الطابعُ الاستثنائيُّ ليومِ المباهلةِ، ما يدلُّ على مدى أهميَّةِ بيانِ الحقيقةِ وإبلاغِها». إذاً المعيارُ في معرفةِ الحقِّ ليس سوى أهلِ البيتِ (عليهم السلام) الذين وردَ وصفُهم على لسانِ أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام) بأمورٍ:
1- إنَّهم الأفضل بين الناسِ ولا يُمكنُ مقايسةُ أحدٍ معهم: يقولُ (عليه السلام): «لاَ يُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ أَحَدٌ، ولاَ يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْهِ أَبَداً، هُمْ أَسَاسُ الدِّينِ، وعِمَادُ الْيَقِينِ، إِلَيْهِمْ يَفِيءُ الْغَالِي، وبِهِمْ يُلْحَقُ التَّالِي، ولَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْوِلَايَةِ».
2- أبوابُ العلمِ: ولذا يصفُهم (عليه السلام) بقوله: «فَإِنَّهُمْ عَيْشُ الْعِلْمِ ومَوْتُ الْجَهْلِ - هُمُ الَّذِينَ يُخْبِرُكُمْ حُكْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ - وصَمْتُهُمْ عَنْ مَنْطِقِهِمْ وظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ».
3- أصحابُ المكانةِ الإلهيَّةِ: لقد كانت المكانةُ التي خصَّ اللهُ عزَّ وجلَّ بها أهلَ البيتِ (عليهم السلام) استحقاقاً خاصّاً لهم لا يتعدَّى لغيرهِم، يقولُ أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام): «أَيْنَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ دُونَنَا - كَذِباً وبَغْياً عَلَيْنَا أَنْ رَفَعَنَا اللَّه ووَضَعَهُمْ - وأَعْطَانَا وحَرَمَهُمْ وأَدْخَلَنَا وأَخْرَجَهُمْ - بِنَا يُسْتَعْطَى الْهُدَى ويُسْتَجْلَى الْعَمَى - إِنَّ الأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ - غُرِسُوا فِي هَذَا الْبَطْنِ مِنْ هَاشِمٍ لَا تَصْلُحُ عَلَى سِوَاهُمْ - ولَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ مِنْ غَيْرِهِمْ».
4- أنّ الهدى بالاتِّباعِ التامِّ لهم: يقول (عليه السلام): «انْظُرُوا أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ - فَالْزَمُوا سَمْتَهُمْ - واتَّبِعُوا أَثَرَهُمْ - فَلَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ هُدًى - ولَنْ يُعِيدُوكُمْ فِي رَدًى - فَإِنْ لَبَدُوا فَالْبُدُوا - وإِنْ نَهَضُوا فَانْهَضُوا - ولَا تَسْبِقُوهُمْ فَتَضِلُّوا - ولَا تَتَأَخَّرُوا عَنْهُمْ فَتَهْلِكُوا».
نسألُ اللهَ أنْ يجعلَنا من المتمسّكينَ بهم وبهديهم، إنّه سميعٌ مجيبٌ.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين