عن أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام) يصفُ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «فَبَالَغَ (صلى الله عليه وآله) فِي النَّصِيحَةِ، وَمَضَى عَلَى الطَّرِيقَةِ، وَدَعَا إِلَى الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَة».
لقد ذكرَ أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام) الكثيرَ من الأدلّةِ والشواهد على أنَّ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قد أتمَّ ما عليه وأنجزَ الوعدَ والمهمّةَ على أفضلِ وجهٍ وما ذكرَهُ الإمامُ (عليه السلام) يمكنُ إيجازُه بما يلي:
1- طبيعةُ المهمّةِ والوظيفةِ اللّتين أتمَّهُما الرسولُ (صلى الله عليه وآله):
فالمهمّةُ كانت جليلةً تستحقُّ المبالغةَ في الرعايةِ الخاصّةِ؛ فكانت الغايةُ التي أنجزَها عظيمةً دائمةً وعالميّةً إلى يومِ القيامةِ، ولذا يقولُ الإمامُ (عليه السلام) مُبيِّناً الغايةَ التي وصلَ اليها بعدمِ بقاءِ شيءٍ من الضلالِ: «حَتَّى سَرَّحَ الضَّلاَلَ، عَنْ يَمِينٍ وَشِمَال»، وهل هناك توفيقٌ أبلغَ وأعظمَ من إنهاءِ الضلالةِ وسدِّ أبوابِها والغلبةِ على كلِّ العوائقِ والمصاعبِ التي تُوضعُ في وجهِ الرسالةِ منعاً لإيصالِها أو تعطيلاً لمهمَّتِها، فالرسولُ (صلى الله عليه وآله) وبحسبِ ما يذكرُ الإمامُ (عليه السلام): «لَمْ يُخْفِ عَنْكُمْ شَيئاً مِنْ دِينِهِ، وَلَمْ يَتْرُكْ شَيئاً رَضِيَهُ أَوْ كَرِهَهُ إِلاَّ وَجَعَلَ لَهُ عَلَماً بَادِياً».
2- الطريقةُ والوسيلةُ في سبيلِ إتمامِ الوظيفةِ:
فقد أفردَ الإمامُ (عليه السلام) عناوينَ خاصّةً في كلامِهِ لبيانِ السبلِ والوسائلِ المتعدّدةِ التي اعتمدَها (صلى الله عليه وآله) في سبيلِ تحقيقِ غايتِه الإلهيّةِ ولعلّ أفضلَ ما ذكرَه (عليه السلام) في هذا المجالِ هو الوصفُ البليغُ للوسيلةِ التي تُنبئُ عن محبّةٍ وحرصٍ شديدٍ فضلاً عن قربهِ مِنَ الناسِ من أجلِ هدايتِهم وإرشادِهم حيث يقولُ (عليه السلام): «طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ، قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ، وَأمْضى مَوَاسِمَهُ، يَضَعُ من ذلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، مِنْ قُلُوب عُمْي، وَآذَان صُمٍّ، وَأَلْسِنَة بُكْم، مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ، وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ»؛ فصفةُ (مُتَتَبِّعٌ) عميقةُ الدلالةِ على ملاحظةِ النبيِّ (صلى الله عليه وآله) لمواردِ الخللِ والضعفِ والوهنِ في الناسِ فكان يُعالجُ أمراضَهم بالمباشرةِ ولم يتركْ أعمى القلبِ أو أصمَّ الأذنِ أو أبكمَ اللسانِ إلّا وأوصلَ إليه المطلوبَ فضلاً عن غيرِهم ممَّن هم سالمونَ ظاهراً.
3- حقّقَ للمسلمينَ مكانةً رفيعةً وهيّأهم ليكونوا خيرَ أمّةٍ:
فالرسولُ (صلى الله عليه وآله) في كلامِ الإمامِ (عليه السلام) لم يؤدِّ وظيفةَ الإبلاغِ فحسب على أتمِّ وجهٍ بل رفعَ شأنَ المسلمينَ وأمدَّهم بكلِّ أسبابِ الصلاحِ والفلاحِ والعظمةِ وهو الذي ما غادرَ هذه الحياة الدنيا إلّا وقد جعلَهم في مواقعَ تليقُ بانتمائِهم إلى الإسلامِ وهو خاتمُ الرسلِ، وفي هذا المجال يقول (عليه السلام): «فَسَاقَ النَّاسَ حَتَّى بَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ، وَبَلَّغَهُمْ مَنْجَاتَهُمْ، فَاسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ، وَاطْمَأَنَّتْ صِفَاتُهُمْ».
وليس هناك أهمُّ من أنْ يقضيَ على أسبابِ الضياعِ والتيهِ فيهم، حيث يصفُ الإمامُ (عليه السلام) هذا المعنى حين يقولُ: «دَفَنَ اللهُ بِهِ الضَّغَائِنَ، وَأَطْفَأَ بِهِ الثَّوَائِرَ، وأَلَّفَ بِهِ إِخْوَاناً، وَفَرَّقَ بِهِ أَقْرَاناً، أَعَزَّ بِهِ الذِّلَّةَ، وَأَذَلَّ بِهِ الْعِزَّةَ»، فقد حوّلَ (صلى الله عليه وآله) الذلّةَ إلى عزّةٍ ليعتزّوا بها، والعزّةَ التي كانت لأعدائِهم إلى ذلّةٍ كي لا يغلبوهم يوماً، فأماتَ فيهم الأحقادَ ومحاها وغيَّرَ فيهم العقولَ والقلوبَ فأنارَها بعد أنْ كانت في دياجيرِ الضلالةِ. ولذا، فإنَّ العجبَ كلَّ العجبِ من أمّةٍ حصلتْ على كلِّ هذا الخيرِ ثمّ أضاعتْهُ وقد يكونُ هذا هو مكمنُ الوجعِ الذي أظهرَهُ أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام) أحياناً من أمّةٍ انقلبتْ على أعقابِها وهجرتْ رسولَها ولم تحفظْ له العهدَ ولا الأمانةَ وارتضتْ بعدَ العزِّ الصافي بالذلِّ الشاملِ.
خِتاماً، نُعزّي صاحِبَ العَصرِ والزّمانِ (عجل الله فرجه الشريف) والوليِّ الفَقيه والمجاهِدينَ جميعاً بذِكرى رَحيلِ رَسولِ الله (صلى الله عليه وآله) وشهادةِ سِبطه الإمامِ الحَسنِ المُجتَبى (عليه السلام).
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين