قَالَ (عليه السلام): «مَا الْمُجَاهِدُ الشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَعْظَمَ أَجْراً مِمَّنْ قَدَرَ فَعَفَّ: لَكَادَ الْعَفِيفُ أَنْ يَكُونَ مَلَكاً مِنَ الْمَلَائِكَةِ».
من الأسسِ التي تعتمدُ عليها الشخصيةُ الأخلاقيةُ في الإسلامِ وبملاحظةِ ما وردَ عن النبيِّ وأهلِ بيتِه صفةَ العفّةِ، والتي هي من الصفاتِ التي تنعكسُ على العديدِ من السلوكياتِ في حياةِ الإنسانِ المسلمِ، ولا ترتبطُ بسلوكٍ واحدٍ، فالعفّةُ تصونُ الإنسانَ من الوقوعِ في الحرامِ بالتعدّي على الأعراضِ وكذلك بالتعدّي على الأموالِ.
والعفّةُ تعتمدُ على ضبطِ الشهوةِ مهما كانت من خلالِ تقويةِ الإرادةِ لمواجهةِ النفسِ الأمّارةِ بالسوءِ، يقولُ أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام) في إحدى وصاياه: «وأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ، ويَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ، فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، إِلَّا مَا رَحِمَ اللَّهُ». فالعفّةُ هي التي تُمسكُ بالنفسِ ولعظمةِ هذه الصفةِ كان كلامُ الإمامِ (عليه السلام) «لَكَادَ الْعَفِيفُ أَنْ يَكُونَ مَلَكاً مِنَ الْمَلاَئِكَةِ» وذلك لشدّةِ أخذِ الإنسانِ زمامَ نفسِه، حتّى إنّ الفاعلَ لذلك كأنّه ملائكةٌ في طهارةِ النفسِ.
بل كشفَ الإمامُ (عليه السلام) عن أنّ الشهيدَ على الرغمِ من عِظَمِ أجرِه عندَ اللهِ لأنّه أعلى البذلِ ليس بأعظمَ ممَّن أمكنتْهُ الفرصةُ من التجاوزِ والتعدّي ولكنّه وقفَ ولم يقعْ، وذلك لما فيها من الجهادِ الأكبرِ، وأمّا القتلُ في سبيلِ اللهِ فهو الجهادُ الأصغرُ، فمن تُفتح له أبوابُ ارتكابِ الشّهواتِ والمحرّماتِ، فيعفَّ عنها ويقدّمْ رضا اللهِ عزّ وجلّ على رضا نفسِه وهواها فهو بمنزلةِ من يُقتلُ في كلِّ يومٍ.
كما تعتمدُ على صفةٍ أخرى مجبولةٍ في الفطرةِ الإنسانيّةِ وهي الغيرةُ أي فطرةُ المحافظةِ على ما يجبُ حفظُه، فقد وردَ عن أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): «قَدْرُ الرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِهِ، ... وعِفَّتُهُ عَلَى قَدْرِ غَيْرَتِهِ». وتتجلّى العفّةُ في موردَينِ بشكلٍ خاصٍّ:
1- العفّةُ عند الشهوةِ التي توجبُ الوقوعَ في الحرامِ بالتعدّي على الأعراضِ، فعن الإمامِ الباقرِ (عليه السلام): «ما عُبِدَ اللهُ بشيءٍ أفضلُ من عفّةِ بطنٍ وفرجٍ».
2- العفّةُ عند الشهوةِ التي توجبُ الوقوعَ في الحرامِ بالتعدّي على الأموالِ. ويتأكّدُ ذلك عندما يكونُ الإنسانُ في منصبٍ يخوِّلُه التصرّفَ في مالِ اللهِ عزَّ وجلَّ أو مالِ الناسِ، ولذا حثَّ الإمامُ أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام) أصحابَه على ذلك حيث قال: «أَعِينُونِي بِوَرَعٍ واجْتِهَادٍ، وعِفَّةٍ وسَدَادٍ».
وفي روايةٍ أخرى يُبيّنُ الإمامُ أنَّ الإنسانَ إذا عاشَ عاملاً فقيراً ولكنه كانَ يمتلِكُ العفّةَ فهو خيرٌ له من الغنى إذا كان يوجبُ الوقوعَ في المعصيةِ، فعنه (عليه السلام): «وَالْحِرْفَةُ مَعَ الْعِفَّةِ خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى مَعَ الْفُجُورِ». وإذا كان الفقرُ بنظرِ بعضِ الناسِ عيباً أو يوجبُ مهانةً فإنّ طريقَ الوقايةِ من هذا هو أن يكونَ الفقيرُ عفيفاً، قال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾. وعن أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): «الْعَفَافُ زِينَةُ الْفَقْرِ، والشُّكْرُ زِينَةُ الغِنَى»
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين