يلمعُ اسمُ الإمامِ جعفرٍ بنِ محمدٍ الصادقِ عليهما السلام في سماءِ العلومِ الاسلاميةِ ساطعاً منيراً، فقد تتلمذ عليه عددٌ كبيرٌ من الأسماءِ المعروفةِ وفي المذاهبِ المتعددة، وفي العلومِ المتنوعة، وبذلك انتشرت معارفُ أهلِ البيتِ عليهم السلام، الأمرُ الذي مهّد لنهضةِ الحضارةِ الاسلامية. ولو أردنا ان نتحدثَ عن الدورِ الذي قام به الإمامُ الصادقُ عليه السلام في هذا المجال، يمكننا ان نسجلَ ذلك على مستويَين:
- المستوى الأول، توجيهُ وتهذيبُ المدرسةِ الاسلامية: فقد اتسعت مدرسةُ الإمامُ الصادقُ عليه السلام، فلم تقتصر على شيعةِ أهلِ البيتِ والموالينَ للأئمةِ عليهم السلام، بل اخذت منحًى فَتَحَ المجالَ لكلِّ مَن يدينُ بالاسلامِ ليتلقّى المعارفَ مِن منبعِها صافية. فأكمل الإمامُ الصادقُ عليه السلام مسيرةَ أبيه وجدِّه عليهما السلام لتبلغَ مدرسةُ أهلِ البيتِ عليهم السلام ذروةَ المجد، وتزدهرَ أشدَّ الازدهار، فتكونَ الجامعةَ الأولى في تاريخِ الإسلامِ التي تحتضنُ تلامذةً وطلّاباً من جميع أقطار المعمورة, ومن مختلفِ المذاهبِ والفرقِ والاتجاهات, وليشكّلَ الإمامُ الصادقُ عليه السلام محورَ هذه الجامعةِ بشخصيّتِه العلميّةِ الفذّةِ التي استقت علومَها من منبعِ الوحيِ والنبوّة. يكشِفُ ما قام به الإمامُ الصادقُ عليه السلام في هذا المجالِ عن الحرصِ الشديدِ على الحفاظِ على العلومِ الإسلاميةِ قريباً من مصادرِها الصحيحةِ محصَّنةً من ايِّ انحرافٍ قد يلحقُ بها فيؤدّيَ الى الخروجِ عن معالمِ الاسلامِ العامة.
- المستوى الثاني، ترسيخُ قواعدِ الفِقهِ الشيعيّ: وهذا ما يشيرُ إليه الإمامُ الخامنئيُّ دام ظله عند حديثِه عن الإمامِ الصادقِ تحت عنوان "بيانُ الأحكامِ وتفسيرُ القرآنِ وَفقَ ما ورثَتْهُ مدرسةُ أهلِ البيتِ عليهم السلام عن رسولِ الله صلى الله عليه وآله". فقد عمدَ أئمةُ أهلِ البيتِ عليهم السلام دائماً إلى تربيةِ النخبةِ من الأصحاب، ويأتي هذا الأمرُ في سياقِ مشروعِ أهلِ البيتِ عليهم السلام في مختلفِ الأزمنة, حيث نجدُ لكلِّ إمامٍ منهم أصحاباً وخواصَّ وحواريّين, قام الأئمّةُ بتربيتهم. وامتاز عصرُ الإمامِ الصادقِ عليهم السلام وبسببِ الظروفِ المحيطةِ والفرصةِ المتاحةِ بوجودِ عددٍ كبيرٍ من هؤلاءِ الأصحابِ الذين تعدّدت اختصاصاتُهم والعلومُ التي اهتمّوا بها، وذلك بتوجيهٍ مباشرٍ من الإمامِ عليه السلام، فبرز في كلِّ عِلْمٍ من العلومِ عَلَمٌ من تلامذةِ الامام. وكان من اهمِّ تلك العلومِ علمُ الفِقهِ والأحكامِ الشرعية، حتى عُرفَ الفقهُ الشيعيُّ "بالفقهِ الجعفريّ"، نسبةً إلى الإمامِ الصادقِ عليه السلام، فقد قام الإمامُ بتربيةِ مَن عُرِفَ مِن بَعدِهِ بأنهم رواةُ الحديث، وهم كانوا في الواقعِ من أهمِّ فقهاءِ ذلك الزمان، وبهم تشكّلتْ مدرسةُ الإجتهادِ عند الشيعة، فكان الإمامُ عليه السلام بذلك من الممهِّدينَ لعصرِ غيبةِ القائمِ المهديِّ عجل الله فرجه الشريف عبر تشكيلِ مرجعيّةِ الفقيهِ العادلِ الذي يرجع إليه الناسُ عندما لا يتمكّنون من لقاءِ إمامِ زمانهم. وهذا الرجوعُ ليس في خصوصِ الفقه، بل في الأمورِ كافة، ولذا يؤكّدُ الإمامُ الخامنئيُّ دام ظله على أنّ الإمامَ الصادقَ عليه السلام كان يهدفُ من خلالِ ذلك إلى إفهامِ الناسِ أنَّ عِلمَ الدينِ وفَهمَ القرآنِ بشكلٍ صحيحٍ شرطٌ من شروطِ الإمامةِ وقيادةِ الناس.
وكانت شهادةُ الإمامِ الصادقِ عليه السلام في 25 شوال من عام 148 للهجرة في المدينةِ المنوَّرة، ودُفنَ في بقيعِ الغرقدِ إلى جنبِ أبيه وجدِّهِ وعمِّهِ الإمامِ الحسنِ عليهم السلام.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين