قال تعالى: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾.
تتكرر في آياتِ القرآنِ الكريمِ صورٌ ومشاهدُ مِن عظمةِ خلقِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ومن هذه المشاهدِ الأرضُ التي نعيشُ عليها وننعمُ بما فيها مِن خيراتٍ، حيثُ حدّثَتْنا الآياتُ عن يومٍ فضيلٍ هو اليومُ الذي بَسَطَ اللهُ فيه هذه الأرضَ، وجعلها قابلةً ليعيشَ فيها الإنسانُ، والمصادِفُ بحسبِ الرواياتِ الخامسَ والعشرين من شهر ذي القَعدة، وهو أحدُ الأيّامِ الأربعةِ التي خُصّتْ بالصّيامِ مِن بينِ أيّامِ السّنة، ورُوي أنّ صيامَهُ يعدِلُ صيامَ سبعين سنةً، وهو كفّارةٌ لذنوبِ سبعين سنةٍ على روايةٍ أخرى.
ولكنَّ هذا كلَّه له نقطةُ نهايةٍ، هي التي عَبَّرَ عنها القرآنُ الكريمُ في تتمّةِ الآياتِ: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَىٰ (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَىٰ (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ﴾، وذلك تنبيهاً لهذا الإنسانِ أنَّ هذه الدنيا هي دارُ تَزَوُّدٍ للآخرةِ، وأنها ليست هي دارَ مقرٍّ، والفوزُ هو نصيبُ مَن جَمع في هذه الدنيا لأجلِ الآخرةِ. والناسُ بحسبِ الآياتِ على صنفين:
- الصنفُ الأوّل: أصحابُ الهلاك: ﴿فَأَمَّا مَن طَغَىٰ (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (39)﴾، وتشيرُ الآيةُ المبارَكةُ إلى الهلاكِ وبيانِ سببين له، وهما الطغيانُ وإيثارُ الدنيا على الآخرة، وبينهما ارتباطٌ، فالطغيانُ هو الذي يؤدّي بالإنسانِ إلى تقديمِ الدنيا على الآخرة، والطغيانُ تجاوُزُ الحَدِّ في العصيانِ، ومخالفةُ أوامرِ اللهِ عزَّ وجلَّ ونواهيه، وهو يدفعُ الإنسانَ إلى حُبِّ الدنيا، ويَصِلُ به هذا التعلُّقُ بالدنيا أن يقدِّمَها على الآخرة.
- الصنفُ الثاني: أصحابُ الفَوز: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ﴾، وتشيرُ الآيةُ إلى الفوزِ، وأنّه يعودُ إلى سببين، وهما: الخوفُ من الله، وكبحُ هوى النفس:
أ. الخوفُ من مقامِ اللهِ عزَّ وجلَّ: والمرادُ منه على بعض التفاسيرِ للآيةِ إحساسُ الإنسانِ بالرقابةِ الإلهيةِ للإنسان، بدلالة الآية (33) من سورةِ الرعد: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾. وبدلالة ما رُوي عن الإمامِ الصادقِ (عليه السلام): «مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَرَاهُ، وَيَسْمَعُ مَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فَيَحْجُزُهُ ذَلِكَ عَنِ الْقَبِيحِ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَذَلِكَ الَّذِي خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى».
ب. ضبطُ الهوى: فالهوى والميلُ والرغبةُ أسبابٌ تدعو النفسَ إلى نيلِ ما تحبُّ، دونَ نَظَرٍ إلى أوامرِ اللهِ عزَّ وجلَّ ونواهيه، ولكنَّ التقوى والورعَ هما اللذانِ يحجُزانِ الإنسانَ عنِ اتّباعِ الهوى، فعنِ الإمامِ الصادقِ (عليه السلام): «اِحذَروا أهواءَكم كما تحذَرونَ أعداءَكم، فليس شيءٌ أعدى للرجالِ مِن اتِّباعِ أهوائِهم، وحصائدِ ألسنتِهِم».
وعنِ الإمامِ زينِ العابدينَ (عليه السلام) - في الدعاء -: «اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآلِ محمدٍ، واجعلنا منَ الذين غَلقوا بابَ الشهوةِ من قلوبِهِم، واستنقَذوا من الغفلةِ أنفسَهم، واستَعذبوا مرارةَ العيش، واستلانوا البسطَ، وظَفروا بحبلِ النجاةِ وعروةِ السلامة».
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين