روي عن أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): «مَن أحَبَّ أن يَعلَمَ كَيفَ مَنزِلَتُهُ عِندَ اللهِ، فَليَنظُر كَيفَ مَنزِلَةُ اللهِ عِندَهُ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَن خِيَرَ لَهُ أمرانِ: أمرُ الدُّنيا وأمرُ الآخِرَةِ، فَاختارَ أمرَ الآخِرَةِ عَلَى الدُّنيا، فَذلِكَ الَّذي يُحِبُّ اللهَ، ومَنِ اختارَ أمرَ الدُّنيا، فَذلِكَ الَّذي لا مَنزِلَةَ ِللهِ عِندَهُ».
حياةُ الإنسان في هذه الدنيا تختصرُها معركةُ الاختيارِ بين أمرين: إمّا التعلّقُ بهذه الدنيا، المتمثّلُ بتقديمِها على الآخرة، أو بجعلِ هذه الدنيا طريقاً ومعبراً للآخرة، والمنتصرُ هو الثاني، الذي جَعَلَ الآخرةَ خيارَهُ المتقدِّم؛ لأنَّ الآخرةَ تجمعُ خِصلتَي أنها خيرٌ وأنها أبقى، قال تعالى: ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ﴾.
قال أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام): «إِنَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ عَدُوَّانِ مُتَفَاوِتَانِ، وَسَبِيلَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَمَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا وَتَوَلَّاهَا أَبْغَضَ الْآخِرَةَ وَعَادَاهَا، وَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَمَاشٍ بَيْنَهُمَا كُلَّمَا قَرُبَ مِنْ وَاحِدٍ بَعُدَ مِنَ الْآخَرِ، وَهُمَا بَعْدُ ضَرَّتَانِ».
وقد تعدّدتِ الروايةُ الواردةُ في ذَمِّ الدنيا وبيانِ حقيقتِها؛ تحذيراً للإنسانِ من الوقوعِ في الخِيارِ الخاطئ، فعنِ الامامِ عليٍّ (عليه السلام): «مِمّا يَدُلُّكَ عَلى دَناءَةِ الدُّنيا أنَّ اللهَ -جَلَّ ثَناؤُهُ- زَواها عَن أولِيائِهِ وأحِبّائِهِ؛ نَظَراً وَاختِياراً، وبَسَطَها لِأَعدائِهِ؛ فِتنَةً وَاختِباراً».
كما يكفي التدبُّرُ في أنَّ فراقَها أمرٌ محتومٌ على كُلِّ نفْس، بل إنها هي السببُ الذي يجعلُ الجسدَ متهالكاً عاجزاً، قال (عليه السلام): «أُوصِيكُمْ عِبادَ اللهِ بِالرَّفْضِ لِهذهِ الدُّنْيَا، التَّارِكَةِ لَكُمْ وَإِنْ لَمْ تُحِبُّوا تَرْكَهَا، وَالْمُبْلِيَةِ لِأَجْسَامِكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ تَجْدِيدَهَا».
وأعظمُ الفائزينَ همُ الذين استثمَروا هذه الدنيا لصالحِ الآخرة، فعن أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): «النَّاسُ فِي الدُّنْيَا عَامِلاَنِ: عَامِلٌ عَمِلَ فِي الدُّنْيَا لِلدُّنْيَا، قَدْ شَغَلَتْهُ دُنْيَاهُ عَنْ آخِرَتِهِ، يَخْشَى عَلَى مَنْ يَخْلُفُهُ الْفَقْرَ، وَيأْمَنُهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَيُفْنِي عُمُرَهُ فِي مَنْفَعَةِ غَيْرِهِ. وَعَامِلٌ عَمِلَ فِي الدُّنْيَا لِمَا بَعْدَهَا، فَجَاءَهُ الَّذِي لَهُ مِنَ الدُّنْيَا بِغَيْرِ عَمَلٍ، فَأَحْرَزَ الْحَظَّيْنِ مَعاً، وَمَلَكَ الدَّارَيْنِ جَمِيعاً، فَأَصْبَحَ وَجِيهاً عِنْدَ اللهِ، لاَ يَسْأَلُ اللهَ حَاجَةً فَيَمْنَعَهُ».
وما وَرَدَ في كلامِ الإمامِ أخيراً إشارةٌ إلى أنَّ صاحبَ الفَوزِ هذا يَحتَلُّ مكانةً معنويّةً عندَ الله، فهو مِنَ الوُجَهاءِ لديه، وبتعبيرٍ آخرَ هو مِمَّنْ يحبُّهُ اللهُ -عزَّ وجلَّ-.
والمسألةُ تعودُ في الحقيقةِ إلى الصورةِ التي يحمِلُها الإنسانُ في ذهنِهِ ويعيشُها في قلبِهِ حولَ الدنيا، فلو أنه تصوَّرَ حقيقتَها، وأدرَكَها بتمامِ معرفتِها، فغارَ في باطنِها، لكان مِن أولياءِ اللهِ الذين قال عنهم أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام): «إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ هُمُ الَّذِينَ نَظَرُوا إِلَى بَاطِنِ الدُّنْيَا إِذَا نَظَرَ النَّاسُ إِلَى ظَاهِرِهَا، وَاشْتَغَلُوا بِآجِلِهَا إِذَا اشْتَغَلَ النَّاسُ بِعَاجِلِهَا، فَأَمَاتُوا مِنْهَا مَا خَشُوا أَنْ يُمِيتَهُمْ، وتَرَكُوا مِنْهَا مَا عَلِمُوا أَنَّه سَيَتْرُكُهُمْ».
وهكذا يصبحُ تركُ الدنيا فوزاً، ونَيلُ شيءٍ منها فوتاً وضَياعاً.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين