رُوي عنِ الإمامِ الحسنِ العسكريِّ (عليه السلام) يَصِفُ بَعثةَ النبيِّ محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله): «فإنَّ رسولَ اللهِ (صلّى الله عليه وآله)... كان يغدو كُلَّ يومٍ إلى حِراءَ يَصْعَدُهُ، ويَنظُرُ مِنْ قُلَلِهِ إلى آثارِ رحمةِ الله، وأنواعِ عجائبِ رحمتِهِ وبدائِعِ حكمتِه... فلمّا استَكمَلَ أربعين... أَذِنَ لأبوابِ السماءِ فَفُتِحَتْ، ومحمّدٌ (صلّى الله عليه وآله) يَنظُرُ إليها، وأَذنَ للملائكةِ فنزَلوا، ومحمّدٌ (صلّى الله عليه وآله) يَنظُرُ إليهم، وَأَمَرَ بالرحمةِ فأُنزلتْ عليه مِن لَدُنْ ساقِ العرشِ إلى رأسِ محمّدٍ وَغَمَرَتْهُ، ونَظَرَ إلى جبرئيلَ الرُّوحِ الأمينِ المطَوَّقِ بالنور، طاووس الملائكةِ هَبَطَ إليه... وقال: يا محمّد، اقرأ. قال: وما أقرأ؟ قال: يا محمّد، ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾[1]»[2].
فهذهِ السورةُ المبارَكةُ بدأتْ بالأمرِ بالدعوةِ للإنسانِ ليقرأ؛ أَيْ ليتعلَّمَ عبرَ التفكُّرِ والدبُّرِ في خَلْقِ السماواتِ والأرض، وهذا هو السبيلُ الذي يَصِلُ به إلى الهدى لو سَلَكَهُ الإنسانُ واجتَنَبَ الموانعَ التي تَحُولُ بينَهُ وبينَ ذلك، وأهمُّ هذه الموانعِ هو هوى النفس، حيث يتحكّمُ بالعقل، فيقودُ الإنسانَ إلى الهلاك، يقولُ الإمامُ الخمينيُّ (قدس سره): «وفي هذه السورة نفْسها ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾[3]، فهذه السورةُ هي أوَّلُ ما نَزَلَ مِنَ الوحي، وفي أوّلِ نزولٍ للوحيِ وَردت هذه الآيةُ في هذه السورة... فيُعلمُ مِن ذلك أنَّ وجودَ الطغيانِ والطاغوتِ من الأمورِ التي هي على رأسِ الأمور، ومن أجْلِ سَحْقِ الطاغوت، يجبُ تعليمُ الكتابِ والحِكمة، وتعلُّمُ الكتابِ والحكمةِ والتزكية... فلو استغنى ماليّاً، يطغى بهذا المقدار، ولو استغنى علمياً، يطغى بهذا المقدار، ولو حصل على مقام، يطغى بهذا المقدار. ففرعونُ الذي يسمّيهِ اللهُ -تبارك وتعالى- طاغية؛ لأنّه حصل على المقامِ ولم يكن فيه غايةٌ إلهيّة، جَرَّهُ هذا المقامُ إلى الطغيان. الأشخاص الذين يحصلون على أشياءَ مرتبطةٍ بالدنيا مِن دونِ تزكيةِ النفس، ومهما حصلوا، فإنَّ طغيانَهم سوف يزداد، وإنّ وبالَ هذا المالِ وهذا المنالِ وهذا المقامِ وهذا الجاهِ وهذا المنصبِ من الأشياءِ التي تؤدّي إلى تعرُّضِ الإنسانِ للمتاعبِ والصعوباتِ في الدنيا، وهي في الآخرةِ أكثر. فإنّ غايةَ البَعثةِ هي أن تُخلِّصَنا مِن هذا الطغيان، وأن نزكّي أنفسَنا، ونصفّي نفوسَنا ونخلِّصَها مِن هذه الظلمات».
وقد قَرن اللهُ -عزَّ وجلَّ- في كتابِهِ الكريمِ دعوةَ الأنبياءِ إلى عبادتِهِ بالدعوةِ إلى اجتنابِ الطاغوت، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾[4]؛ وذلك لأنَّ الاجتنابَ عنه يحفظُ هذه العبادة، ويصلُ بها إلى غايتِها، وهي الرجوعُ إلى اللهِ -عزَّ وجلَّ-، قال -تعالى-: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾[5].
ختاماً، نبارِكُ لوليِّ أمرِ المسلمين، وللمجاهدينَ جميعاً، ذكرى المبعثِ النبويِّ الشريف.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
[1] سورة العلق، الآيتان 1 و2.
[2] التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري عليه السلام، ص156-157.
[3] سورة العلق، الآيتان 6 و7.
[4] سورة النحل، الآية 36.
[5] سورة الزمر، الآية 17.