عن الإمامِ الحسنِ (عليه السلام): «عَجَبٌ لِمَنْ يَتَفَكَّرُ فِي مَأْكُولِهِ، كَيْفَ لَا يَتَفَكَّرُ فِي مَعْقُولِهِ، فَيُجَنِّبُ بَطْنَهُ مَا يُؤْذِيهِ، وَيُودِعُ صَدْرَهُ مَا يُرْدِيهِ»[1].
العِلمُ يشكّلُ الغذاءَ الذي يتقوّى به العقل، وعلى أساسِهِ يرسمُ الإنسانُ خياراتِه ومساراتِه في حياته، ولذا لا بدّ لصاحبِ العقلِ الموزونِ مِن أن يُحسنَ اختيارَ المصادرِ التي يتلقّى منها هذا الغذاء، وقد ورد في الروايةِ عن الإمامِ الباقرِ (عليه السلام) -في قوله تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾[2]، قال: «عِلْمُهُ الَّذِي يَأْخُذُهُ مِمَّنْ يَأْخُذُهُ»[3].
فإذا كان مصدرُ هذا العلمِ فاسداً، وبه آفاتٌ وأمراض، فسينتقلُ ذلك إلى المتلقّي، ويَظهرُ أثرُهُ في الانحرافِ عن خطِّ الهُدى، فالضلالةُ كما يسبّبُها الهوى، يسبّبها الكلامُ الباطلُ عندَ الاستماعِ إليه. وفي كلمةِ الإمامِ الحسنِ (عليه السلامُ) حَثٌّ على التدبُّرِ في كلِّ ما يَدخُلُ إلى العقلِ، والاطمئنانِ إلى سلامتِه أوّلاً، ولذا يؤكّدُ الإمامُ الخمينيُّ على أنّ العلمَ المطلوبَ هو: «العلمُ الذي يقودُ الإنسانَ نحو الكمالِ المطلقِ وأصلِ حقيقةِ الوجود، العلمُ الذي يربطُ عالَمَ الشهادةِ بعالَمِ الغَيب، العلمُ الذي لا يحوِّلُ الإنسانَ إلى طاغوتٍ كما وَرد في قولِهِ تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾[4]، العلمُ الذي يربطُ العقلَ بالإيمان. على النقيضِ منَ الرؤيةِ المادّيّةِ التي تجعلُ الإنسانَ سلعةً خاضعةً لمقاييسِ الاستخدامِ المادّيِّ، والاستغلالِ في دنيا منفصلةٍ عن الآخرة».
وهذا الغذاءُ يَرِدُ إلى العقلِ عن طريقِ التعلُّمِ تارةً، وعن طريقِ المطالَعةِ والقراءةِ أُخرى، وعن طريق الاستماع ثالثةً. ولأنّ الاستماعَ مِن منافذِ دخولِ المعلوماتِ إلى العقل، كان لزاماً على العاقلِ أن يعرِفَ:
أوّلاً: إلى ماذا يستمع، فيبحثُ عن الحكمة، فعنِ الإمامِ عليٍّ (عليه السلام): «رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً سَمِعَ حُكْماً فَوَعَى، وَدُعِيَ إِلَى الرَّشَادِ فَدَنَا، وَأَخَذَ بِحُجْزَةِ هَادٍ فَنَجَا»[5].
وهذا حَقٌّ مِن حقوقِ السمع، ففي الروايةِ عنِ الإمامِ الصادقِ (عليه السلام): «..وَفَرَضَ عَلَى السَّمْعِ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنِ الِاسْتِمَاعِ إِلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَأَنْ يُعْرِضَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُ مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ، وَالْإِصْغَاءِ إِلَى مَا أَسْخَطَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعً﴾[6]»[7].
ومِن خلالِ تربيةِ الإنسانِ لنفْسِه، يتمكّنُ مِن تعويدِها على الاستماعِ لخصوصِ ما ينبغي، واجتنابِ غيرِه، ففي الروايةِ عنِ الإمامِ عليٍّ (عليه السلام): «عَوِّدْ أُذُنَكَ حُسْنَ الِاسْتِمَاعِ، وَلَا تَصْغِ إِلَى مَا لَا يَزِيدُ فِي صَلَاحِكَ»[8].
وحُسنُ الاستماعِ هو الاستفادةُ ممّا سَمِع، ففي الروايةِ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْصِنِي بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ أَنْجُو بِه. قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «أَيُّهَا السَّائِلُ، اِسْتَمِعْ ثُمَّ اسْتَفْهِمْ ثُمَّ اسْتَيْقِنْ ثُمَّ اسْتَعْمِلْ»[9].
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
[1] قطب الدين الراونديّ، الدعوات (سلوة الحزين)، ص144.
[2] سورة عبس، الآية 24.
[3] البرقيّ، المحاسن، ج1، ص220.
[4] سورة العلق، الآيتان 6 و7.
[5] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص103.
[6] سورة النساء، الآية 140.
[7] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص35.
[8] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص341.
[9] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص456.