وردَ في نهجِ البلاغة، عن أميرِ المؤمنينَ ومولى الموحّدينَ (عليه السلام): «عِبَادَ اللَّه، إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللَّه إِلَيْه، عَبْداً أَعَانَه اللَّهُ عَلَى نَفْسِه، فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ، وتَجَلْبَبَ الْخَوْفَ، فَزَهَرَ مِصْبَاحُ الْهُدَى فِي قَلْبِه، وأَعَدَّ الْقِرَى لِيَوْمِه النَّازِلِ بِه»[1].
يبيّنُ النصُّ العَلويُّ هذا بوضوحٍ كيف يكون العبد الصالح مفتاحاً لأبواب الهدى ولإغلاق أبواب الردى.
ومن الواضحِ والجليِّ والبيّنِ في هذا النصِّ أنَّ الإمامَ يتحدّثُ عن محاربةِ هوى النفسِ كخطوةٍ أُولى في سبيلِ الوصولِ إلى ذلك المقامِ الرفيع. وهذه الخطواتُ تتمثّلُ بالآتي:
1. أَعَانَه اللَّهُ عَلَى نَفْسِه: فمدَّهُ بما ينتصِرُ بِه على نفسِه؛ لأنّ الإنسانَ في حالةِ صراعٍ دائمٍ مع نفسِه الأمّارةِ بالسوء، فهو يسعى لمنعِها من ارتكابِ الحرام، ويظهرُ منِ استخدامِ الإمامِ (ع) لـ«أَعَانَه عَلَى نَفْسِه» أنّ على الإنسانِ أنْ يبادرَ لمحاربةِ النفسِ، ويترتّبُ على ذلك أنْ يأتيَه العونُ من اللهِ عزَّ وجلَّ، كما يشيرُ ذلك إلى أهمّيّةِ المعونةِ والتوفيقِ الإلهيّينَ في عمليّةِ تهذيبِ النفس، بل إنّ زيادةَ محبّةِ الله عزَّ وجلَّ مرتبطةٌ بمستوى محاربةِ النفس، قال تعالى في سورة النور، الآية 21: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[2].
2. فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ: ونتيجةً للمعونةِ الإلهيّة والمددِ له، أنّه اتخذَ الحزنَ شعاراً وعنواناً له، فهو مستمرٌّ عليه. إنّه يحزن –كما قيل- على ما فرّطَ في جنبِ الله؛ باكتسابِه إثماً أو بامتناعِه عن قُرب. والحزنُ أمرٌ داخليٌّ لا يظهرُ للعلَن.
3. وتَجَلْبَبَ الْخَوْفَ: والأثرُ الآخرُ للمددِ الإلهيِّ لهذا العبد، أنَّهُ تجلبَبَ الخوفَ ولبِسَه كالثوب. إنَّه الخوفُ من اللهِ ومن العذابِ ومن النار؛ وذلك ما يُبعدُه عن المعصية. والخوفُ يظهرُ أثرُه على الإنسان، فيراه الناس، والخوفُ الجلبابيُّ هو الخوفُ الذي استوعبَ حياتَه كلَّها؛ وهذا يعني وجودَ حالةٍ مستمرّةٍ من الشعورِ بالخوف؛ لأنّ الشعارَ هو اللباسُ الملاصِقُ للبدن، فالإنسانُ دائماً يشعرُ بِه.
4. فَزَهَرَ مِصْبَاحُ الْهُدَى فِي قَلْبِه: أبصرَ الطريقَ فعاشَ الحقائقَ، وأضاءَ الهدى في قلبه؛ وهذا يدلُّ على أهمّيّةِ المعرفةِ القلبيّةِ وأنّها أساسٌ في العمل، ولعلّ المرادَ منها تلكَ الفطرةُ الموجودةُ لدى كلِّ إنسانٍ إلّا أنّها تزهرُ لدى بعضِهم دونَ بعض، وقد وردَ عن الإمامِ الباقرِ (عليه السلام): «الْقُلُوبُ ثَلَاثَةٌ: قَلْبٌ مَنْكُوسٌ لَا يَعِي شَيْئاً مِنَ الْخَيْرِ، وهُوَ قَلْبُ الْكَافِرِ، وقَلْبٌ فِيه نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَالْخَيْرُ والشَّرُّ فِيه يَعْتَلِجَانِ، فَأَيُّهُمَا كَانَتْ مِنْه غَلَبَ عَلَيْه، وقَلْبٌ مَفْتُوحٌ، فِيه مَصَابِيحُ تَزْهَرُ، ولَا يُطْفَأُ نُورُه إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وهُوَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ»[3].
5. وأَعَدَّ الْقِرَى لِيَوْمِه النَّازِلِ بِه: والقِرى هي ما يُعِدُّه الرجلُ لضيوفِه. وحيثُ إنّ الموتَ سينزلُ بالإنسانِ يوماً، فعليهِ أنْ يُعِدَّ ضيافةَ هذا الضيفِ، من خلالِ العملِ الصالح؛ فإنّه بذلكَ يُحسِنُ ضيافتَه، عن أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام) لمّا سُئِلَ عنِ الاستعدادِ للموتِ قال: «أداءُ الفرائض، واجتنابُ المحارم، والاشتمالُ على المكارم، ثمّ لا يبالي أَوَقَعَ على الموتِ أمْ وقعَ الموتُ عليه، واللهِ ما يبالي ابنُ أبي طالبٍ أوقعَ على الموتِ أم وقعَ الموتُ عليه»[4].
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
[1] السيد الرضيّ، نهج البلاغة، ص118.
[2] سورة النور، الآية 21.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص423.
[4] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص110.