بسم الله الرحمن الرحيم
في الأول من ذي الحجة السنة الثانية للهجرة, كان عمر الإمام علي عليه السلام قد بلغ أربع وعشرين سنة, فلا بد له من الزواج وبدء الحياة المشتركة. والسيدة فاطمة الزهراء عليها السلام قد أكملت التاسعة من عمرها, وقد تقدم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكثير من الصحابة يطلبون يدها, إلا أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم امتنع عن ذلك وصرح بأنه ينتظر فيها قضاء الله, إلى أن تقدم أمير المؤمنين عليه السلام, لخطبتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فقال له: "يا علي قد ذكرها قبلك رجال, فذكرت ذلك لها, فرأيت الكراهة في وجهها, ولكن على رسلك حتى اخرج إليك", فلما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على فاطمة عليها السلام, واخبرها بالأمر الذي جاء لأجله علي عليه السلام, سكتت ولم تول وجهها, ولم ير فيه الكراهية التي كان يراها في عرض غيره عليها, فقام وهو يقول: "الله اكبر, سكوتها إقرارها"، فخرج إلى علي وموافقة الزهراء بادية على قسائم وجهه, تحكيها ابتسامته المباركة, فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي هل معك ما أزوجك به؟ فقال عليه السلام: فداك أبي وأمي, والله لا يخفى عليك من أمري شيء, املك سيفي ودرعي وناضحتي. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي, أما سيفك فلا غنى بك عنه, تجاهد به في سبيل الله, وتقاتل أعداء الله, وناضحتك تنضح به على نخلك واهلك, وتحمل عليه رحلك في سفرك, ولكني قد زوجتك بالدرع, ورضيت بها منك, بع الدرع, واتني بثمنه.
باع الإمام علي عليه السلام الدرع بأربعمائة وثمانين درهما, وقيل بخمسمائة, وجاء بالدراهم وطرحها بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم, فكان هذا فقط صداق أشرف وأعظم فتاة عرفتها دنيا الإنسان.
ثم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قسم المبلغ أثلاث, ثلثا لشراء الجهاز, وثلثا لشراء الطيب, وثلثا تركه عند أم سلمة أمانة, ثم رده بعد ذلك إلى علي عليه السلام قبيل الزفاف, إعانة منه لوليمة الزفاف.
دفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الثلث لأبي بكر وسلمان وبلال ليشتروا لفاطمة عليها السلام متاع بيتها, فكان ما اشتروه متواضعا غاية التواضع, بحيث لما طرح بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم اخذ يقلبها بيده, ثم رفع رأسه إلى السماء, وقال: "اللهم بارك لقوم جلّ آنيتهم الخزف".
ومن السنن النبوية الوليمة عند الزواج, وقد روي عن ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا بلالا فقال: يا بلال, إني قد زوجت ابنتي ابن عمي, وأنا أحب أن يكون من سنة أمتي إطعام الطعام عند النكاح, فائت الغنم فخذ شاة وأربعة أمداد أو خمسة, فاجعل لي قصعة لعلي اجمع عليها المهاجرين والأنصار, فإذا فرغت منها فأتني بها.
فانطلق ففعل ما أمره, ثم أتاه بقصعة, فوضعها بين يديه, فطعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رأسها, ثم قال: أدخل علي الناس زفة زفة, ولا تغادرن زفة إلى غيرها. فجعل الناس يردون كلما فرغت زفة وردت أخرى حتى فرغ الناس.
ومن خلال هذه النظرة السريعة لهذا الحدث الكبير في تاريخ الإسلام يمكن استقراء جملة من الدروس التربوية العظيمة التي جعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم معالم للأجيال, يمكن الإشارة إلى أهمها وهي:
أولا: اختيار علي عليه السلام لفاطمة عليها السلام – وان كان من قبل السماء بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله أمرني بان أزوج فاطمة من علي" – لكنه كان وفق ضوابط الإيمان وأهلية كل طرف للطرف الآخر ويدلل ذلك بوضوح على أهمية هذه الضوابط واعتبارها هي الأساس الذي يجب أن تبني عليه أركان الأسرة المسلمة وكيانها.
ولعل في الكلام الذي روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "يا فاطمة, أما إني ما آليت أن أنكحتك خير أهلي" إشارة إلى لزوم انتخاب الأصلح.
ثانيا: السنن والدروس النبوية التي طبعت في معالم تشكيل هذه الأسرة المباركة من قلة المهر وإطعام الطعام وإقامة الفرح والسرور وتوصية الطرفين احدهما بالآخر والبساطة في تجهيز أثاث البيت ومتطلباته.
عاش علي وفاطمة عليهما السلام على أحسن حال, فلم يشتك علي من فاطمة طيلة حياته معها, وكذلك فاطمة, بل كان كل منهما نعم العون على طاعة الله للآخر, وهناك كثير من النصوص تؤكد هذه الحقيقة, فقد قال علي عليه السلام في بيان العلاقة بينهما: "فوالله ما أغضبتها ولا أكرهتها على أمر حتى قبضها الله عز وجل, ولا أغضبتني ولا عصت لي أمرا, لقد كنت انظر إليها فتنكشف عني الهموم والأحزان".
وجاء في آخر كلام لها مع علي عليه السلام: "يا ابن العم ما عهدتني كاذبة ولا خائنة, ولا خالفتك منذ عشرتني", فقال عليه السلام: "معاذ الله أنت أعلم وأبر وأتقى وأكرم وأشد خوفا من الله أن أوبخك بمخالفتي".
لقد كان التناغم والتلاؤم بين الإمام علي والسيدة فاطمة عليهما السلام ما تعكسه هاتان العبارتان, وكيف لا يكونان كذلك وهما من البيت الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا بنص كتابه العزيز ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾.