كما وحصل في الأول من ذي الحجة السنة التاسعة للهجرة حادثة مهمة في التاريخ الإسلامي وهي إرسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر إلى مكة بالآيات الأولى من سورة براءة ليقرأها على كفار مكة, وهذه هي الرواية موجزة، كما رواها الإمام أحمد بن حنبل، إذ قال: حدثني وكيع، قال: قال إسرائيل: قال أبو إسحاق، عن زيد بن يثيع عن أبي بكر: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثه ببراءة إلى أهل مكة: "لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف في البيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ومن كان بينه وبين رسول الله مدة فأجله إلى مدته، والله برئ من المشركين، ورسوله" قال: فسار بها ثلاثا، ثم قال النبي لعلي: "ألحقه، فرد علي أبا بكر، وبلغها أنت". قال: ففعل، فبينا أبو بكر في بعض الطريق، إذا سمع رغاء ناقة الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القصوى، فخرج أبو بكر فزعا، فظن أنه رسول الله، فإذا هو علي، فدفع إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأخذها منه، وسار، ورجع أبو بكر. فلما قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكى، وقال: يا رسول الله، أحدث في شيء؟ قال: "لا ولكن أمرت أن لا يبلغها إلا أنا، أو رجل مني" وفي بعض الروايات: "لا يبلغ عني إلا أنا، أو رجل مني".
والحادثة تشير بوضوح إلى عدة نقاط مهمة يمكن الإشارة إليها:
أولا: الأهمية الخاصة لهذه الآيات الشريفة وما تتضمنه من إمهال الكفار والمشركين فترة أربعة أشهر, يبدأ من العاشر من ذي الحجة وتنتهي باليوم العاشر من شهر ربيع الأول للسنة العاشرة.
ثانيا: تبين الحادثة فضل أمير المؤمنين عليه السلام عند الله عز وجل وعند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
ثالثا: مع أهمية العهود والمواثيق في الإسلام إلا أن الأمر الإلهي أعلن من خلال هذه الآيات إعلانا عاما أمام الناس كافة: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُه﴾....
رابعا: إن الأديان والعقائد الفاسدة مثل عبادة الأصنام ليست عقيدة ولا فكر, بل هي خرافة ووهم باطل خطر, فيجب القضاء عليها وإزالتها من المجتمع الإنساني. فإذا كانت قوة عبدة الأصنام وقدرتهم بالغة في الجزيرة العربية آنذاك, فاضطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسبب تلك الظروف إلى معاهدتهم ومصالحتهم, فإن ذلك لا يعني أنه لا يحق له إلغاء معاهدته – إذا ما قويت شوكته – وأن ينقض عهده الذي سيعتبر مخالفا للمنطق والعقل فيما لو استمر عليه. كما أن هذا الحكم مختص بالمشركين, أما أهل الكتاب وسائر الأقوام الذين كانوا في أطراف الجزيرة العربية فقد بقيت المعاهدات معهم على حالها ولم ينقض النبي صلى الله عليه وآله وسلم مواثيقهم وعهودهم حتى وفاته صلى الله عليه وآله وسلم.