عن الإمامِ الكاظمِ (عليه السلام): «يَا هِشَامُ، مَنْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِثَلَاثٍ، فَقَدْ لَطُفَ لَهُ: عَقْلٌ يَكْفِيهِ مَئُونَةَ هَوَاهُ، وَعِلْمٌ يَكْفِيهِ مَئُونَةَ جَهْلِهِ، وَغِنًى يَكْفِيهِ مَخَافَةَ الْفَقْرِ»[1].
إنّ نِعَمَ اللهِ -عزَّ وجلَّ- على العبادِ لا تُعَدُّ ولا تحصى، ومِن هذه النعمِ كراماتٌ يتجلّى بها اللّطفُ الإلهيُّ على بعضِ العباد، وهي مواهبُ معنويةٌ وصفاتٌ يحملُها المُكَرَّمُ بها، تجعلُه في حِفظٍ مِن الهلكات، وتكونُ باباً للمُنجِياتِ في الدنيا والآخرة.
وتتحدّثُ الروايةُ عن الإمامِ الكاظمِ (عليه السلام) عن صفاتٍ ثلاث، هي مصداقٌ لهذه النعمِ والكرامات:
1. العقل: عن سماعة بن مهران، قال: كنتُ عند أبي عبدِ اللهِ الصادقِ (عليه السلام)، وعنده جماعةٌ مِن مُواليه، فجرى ذِكرُ العقلِ والجهل، فقال أبو عبدِ اللهِ (عليه السلام): «اِعْرِفُوا الْعَقْلَ وَجُنْدَهُ، وَالْجَهْلَ وَجُنْدَهُ؛ تَهْتَدُوا»[2].
والعقلُ كما يعرّفُهُ الإمامُ الخمينيُّ (قُدِّس سرّه) هو: «القوّة الروحانيّة التي هي بدافعِ الذاتِ مجرَّدة، وبدافعِ الفطرةِ مائلةٌ إلى الخيرات والكمالات، وداعيةٌ إلى العدلِ والإحسان». وهو يقودُ معركةً ضدَّ جنودِ الجهل. وإذا أُكرِمَ الإنسانُ بهذا العقل، أَمكَنَهُ أن يتغلّبَ به على الهوى، وهي القوّةُ التي تميلُ بالإنسانِ إلى الدنيا.
فالعقلُ لا بُدَّ مِن أن يكونَ أميراً حاكماً على النفس، تتصرّفُ كُلُّ قوى هذه النفس على ما يدركه، ولكن إذا كانت الغلبةُ للهوى، أصبح العقلُ أسيراً لها، فقد ورد عن أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): «كمْ مِنْ عَقْلٍ أَسِيرٍ تَحْتَ هَوَى أَمِيرٍ»[3].
2. العِلم: لقد حثَّ الإسلامُ على العلم، فهو الذي يضيء الطريقَ للسالكِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، ويقي الإنسانَ مِن أن تَلحَقَ به مضارُّ الجهل، وأعظمُ ضررِ يدفعُهُ العلمُ عن المتعلّمِ هو عذابُ الآخرة، ففي الروايةِ عن رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عُتَقَاءِ اللَّهِ مِنَ النَّارِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى الْمُتَعَلِّمِينَ. فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مِنْ مُتَعَلِّمٍ يَخْتَلِفُ إِلَى بَابِ الْعَالِمِ، إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ قَدَمٍ عِبَادَةَ سَنَةٍ، وَبَنَى اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ قَدَمٍ مَدِينَةً فِي الْجَنَّةِ، وَيَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَهِيَ تَسْتَغْفِرُ لَهُ، وَيُمْسِي وَيُصْبِحُ مَغْفُوراً لَهُ، وَشَهِدَتِ الْمَلَائِكَةُ أَنَّهُمْ عُتَقَاءُ اللَّهِ مِنَ النَّارِ»[4].
3. الغنى: وهي صفةٌ في النفسِ تجعلُ الإنسانَ يتصرّفُ في هذه الحياةِ بطريقةِ الاستغناءِ عن الناس؛ لأنّ ثقتَه باللهِ عزَّ وجلَّ وبعبوديّته له، فقد وَرَدَ عن رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «خَيْرُ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ»[5]، وعنه (صلى الله عليه وآله) أيضاً -لأبي ذر-: يا أبا ذر، «أتَرى كثرةَ المالِ هو الغنى؟ قلت: نَعَمْ يا رسولَ الله، قال: فتَرى قِلَّةَ المالِ هو الفقر؟ قلتُ: نَعَمْ يا رسولَ الله، قال: إنّما الغنى غنى القلب، والفقرُ فَقْرُ القلب»[6].
ويصفُ الإمامُ الباقرُ (عليه السلام) أهلَ التقوى بأنهمُ الأغنياء، فقد وَرد عنه: «... وَاعْلَمْ يَا جَابِرُ أَنَّ أَهْلَ التَّقْوَى هُمُ الْأَغْنِيَاءُ؛ أَغْنَاهُمُ الْقَلِيلُ مِنَ الدُّنْيَا، فَمَئُونَتُهُمْ يَسِيرَةٌ»[7]؛ وذلك لأنّ هَمّهم في الآخرةِ لا في الدنيا، فعن أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): «مَنْ أَصْبَحَ وَالْآخِرَةُ هَمُّهُ، اسْتَغْنَى بِغَيْرِ مَالٍ»[8].
ختاماً، نرفعُ آياتِ العزاءِ لصاحبِ العصرِ والزمانِ (عجّل الله فرجه الشريف)، ولوليِّ أمرِ المسلمين، وللمجاهدينَ جميعاً، بذكرى شهادةِ الإمامِ موسى بنِ جعفرٍ الكاظمِ (عليهما السلام).
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
[1] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول (ص)، ص400.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص21.
[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج66، ص410.
[4] الشيخ الديلميّ، إرشاد القلوب، ج1، ص164.
[5] المصدر نفسه، ص73.
[6] النيسابوريّ، المستدرك على الصحيحين، ج4، ص327.
[7] ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول عن آل الرسول (ص)، ص287.
[8] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، ص580.