هيَ أولى لحظاتِ الورود إلى ساحة قُدس الله لمباشرةِ أعمال التقرُّب إلى ذات الجلال والجمال، خطواتٌ وتصِل ببدنِك الماديِّ إلى الطائفِين الذين يُباهي الله بهم، تفرُّ الدمعةُ التائقةُ لرحمةِ الباري من بينِ أشفارِ عينَيك لتُسابقكَ في الوصول إلى حيثُ الوالهين، وتُزاحمُ نفسُك التائقةُ إلى موجِدها وأنيسِها جموعَ العابدين، لتدركَ السكينة في أقرب حيْن.
تصلُ إلى تطوافِ عبيدِ الله حولَ أوّل بيتٍ وُضع للناس، لتنسكبَ معهم في مسيرة المؤمنين حولَ الكعبةِ المشرّفة، وتبدأ بذلك مراسم أعمال حجِّك أو عمرتك، فتأخذُك غمرةُ التأمّلِ في وحي هذا العمل العظيم.
إشعاع ونور في بيت الله: لو التفتَّ إلى السماء لوجدْتَ الشمسَ تقفُ شاخصةً لتمدَّ الكواكبَ الطائفةَ حولَها بالنُّور، فتكونُ بذلك مرتكز النور ومصدره، ويكونون المتلقيّن لدفئها وإشعاعها، لولا وجودها لأصبحوا صخوراً مظلمةً ضائعةً في الفلك الفسيح.
وفي قبلةِ المصلين أطيافُ أنوار الإيمان تُشّعُّ من جنباتها، حيث يحاول الحاج أن يتلقّى أكبر قدر من فيضها، يطوف ملبياً داعياً راجياً أن يزيل اللهُ حجُبَ عالمِ المادّة من قلبِه لتنفتحَ نفسُه على عالمِ الملكوت الأعلى، ويكون مستعدّاً لتلقّي الفيضَ الرباني، "أنِرْ أبصارَ قلوبِنا بضياءِ نظرِها إليك حتى تخرقَ أبصارُ القلوب حجبَ النور، فتصل إلى معدن العظمة"
هنا يتوجه المصلون في معراجهم إلى بارئهم...
هذه نقطة الركوع والسجود للتقرّب من رب العالمين...
لقد أصبحتَ قريباً جدّاً بجسدِك المادّي من شعاع الإيمان المعنوي...
فحاوِلْ أن تطوفَ بقلبِك وروحك كما تطوفُ ببدنك وجسدك...
لولا وجودها لما شعرتَ بنعمة الإيمان وحلاوة الإطمئنان...
فهيّء قلبَك، واعلَم أنّ هذه فرصةٌ لا تُفوّت...
إصرارٌ وإلحاح: في الطواف الواجب، يلزم على المكلّف أن يكرّر الطواف سبع مرات، فهو يعرجُ إلى رحابِ عظمةِ الله الموجودِ في كلِّ مكان، الذي استوى على الأرضِين السَبع وعلى السماوات السبع ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ والذي منّ على رسوله بإنزاله السبع المثاني والقرآن العظيم: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴾.
تكرارٌ يُلمح إلى الإصرار، فالطائفُ يلّحُ على ربّه لإجابة الدعاء وغفران الذنوب والدخول إلى الرضوان. هذا الإلحاحُ مطلوب من العبد، تجدُه في وجوب تكرارِِ صلاتك و استحباب استمرارِ ذكرِك ودوامِ دعائِك حيث وردَ عن الإمام الباقر عليه السلام : واللهِ لا يلّحُ عبدٌ مؤمنٌ على الله عزّ وجل في حاجتِه إلا قَضَاها له. وورد عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام : سَلْ حاجتَك وألحّ في الطلب، فإنّ الله يحبُّ إلحاحَ الملحيّن من عبادهِ المؤمنين.
وكثرةُ الطواف في ظلّ بيت الله يقرّب العبد إلى ربّه، فلو لَم يرقّ قلبه من المرّة الأولى، يحاول ثانية وثالثة وسابعة حتى يستمطر الغيث من غمامات الرحمة الإلهيّة، ويستدرّ إجابة الدعاء بسبب المداومة، وقد وردَ استحبابُ تكثير الطواف، حيث قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : "استكثُروا من الطواف، فإنه أقلّ شيء يوجد في صحائفِكم يوم القيامة.
فلتكُن أشواطك السبعة في الحجّ كحبةٍ أنبتَت سبعَ سنابل في كلِّ سنبلةٍ مائة حبة والله يضاعف لمَن يشاء، ولتطُف سبعةَ أشواطٍ سِمان لتمحوَ ذنوبَ سنوات عمرِك العِجاف ولتصبحَ أشواطُكَ السبعة أعمالٌ تتصعّد إلى الله تعالى، كما تتنزّل أوامره: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ﴾ .
الثابت والمتغيّر: لن يكون من الشاق على الحاج أن يرى الحركة الدائمة للطائفين حول الأركان الثابتة لبيت الله الحرام، مشهدٌ يدلّ على القطب وأطراف الرحى، على الذي يتغيّر والذي لا يتغيّر، منظرٌ يوحي إلى ما يفنى وما يبقى، ويقود إلى آية الله: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾.
يطوف الحجيج حول البيت، ينهون أشواطهم ثم ينتهون من طوافهم وسرعان ما يعودون إلى أوطانهم ليأتي غدٌ جديد وموسم جديد بآخرين وآخرين، حركةٌ عمرُها آلافُ السنوات، الثابت فيها بيتُ الله وكلّ مَن حولَه في تغيّر مستمر. هُنا كانَ آدم وزوجته وإبراهيم وقومه وإسماعيل وأمّه ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وغيرهم وغيرهم، لم يبقَ إلا مَن عبدوه، ولَم يستقر في صحائفهم إلا الأعمال الخالصة لوجهه تعالى. قصورُهُم وجنودُهم وحليّهم ومواكبهم وجنّاتهم الغنّاء وحدائقِهم الخضراء زالت ﴿ كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ .أمّا عنادُهم واستكبارُهم ولجاجتُهم وأعمالُهم فقد أضحَت ﴿ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ﴾. لم يبقَ ولن يبقى إلا ما ارتبط بالثابت الأوحد واجب الوجود عزّ وجل، فكلُّ الآمال التي ارتبطَت به وقّدّمت لوجهه تبقى وكل شيء يزول، لأن المنتسب إلى الثابت ثابت لا يتزلزل، والمرتبط بالباقي يبقى، أليس ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ . وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾.
وكيفما دارَ الطائف فإنه يرى الأركان الأربعة شاخصةً أمامه، يقطع الركن الأسود فيتمثّل له ركن الكعبة اليماني، ويمرّ بالقرب منه فيشخص الركن العراقي، فكيفَ مشى وأنّى دار، يبقى بيتُ الله وجهةً له، وحيثما شرّق أو غرّب يدوم وجه الله معه: ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ﴾، ومهما انتقلت به الأحداث وتغيّرت له الأمور بصاحبه رحمة الله: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾.
خطوات لا تنتهي: تتميز الحركة الدائرية عن الحركة المستقيمة بأنها حركة لا تنتهي، لن تصل إلى نقطة النهاية، بل كلّما حثثت الخطى سراعاً فستكون أقرب إلى نقطة البداية لتنطلق من جديد.
يصلُ الإنسان في أعماله وأهدفه الماديّة إلى نقطة الإنتهاء، فالذي يريدُ إشباع غرائزه أو إرضاء نزواته ورغباته في أمرٍ معيّن، سيتبيّنُ له إن وصل سرعةَ انتهاءِ لذّته وبقاءِ تبعته، ومن يبتغِ أن يصلَ إلى غايةٍ مادية فسيبقى يسعى إليها حتى إذا وصَل سيجدها تافهةً مبتذلَة لا تستحقّ كلّ ذلك الجهد والعناء، وذلك لأنّ الماديَّ مقيّدٌ بالزمان والمكان.
لكن لا نهاية في سَير العبد إلى الله، ولا حدودَ في علاقة المفتقر إلى الوجود مع مُوجد ومُعطي الوجود، حركةٌ باحثةٌ نحو الكمال اللامتناهي، صعودٌ باتجاه الرحمة والعلم والجمال والكرم والقدرة والعدل الذي لا ينتهي، لن يصل الكادح إلى نهاية لأنّه جعل ارتباطه بمطلقٍ لا حدود لكماله ولا وصْف لجماله وجلاله، يجدُ فيه الانسان ما يرتجي وما يبحث، فترجعَ النفس إلى غايتها المنشودة: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾.