ورد في الروايةِ أنَّ رجلاً جاء إلى الإمامِ الصادقِ (عليه السلام) فقال: قد سئمتُ الدنيا، فأتمنّى على اللهِ الموتَ، فقالَ (عليه السلام): «تَمَنَّ الْحَيَاةَ لِتُطِيعَ لَا لِتَعْصِيَ؛ فَلَئِنْ تَعِيشَ فَتُطِيعَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَمُوتَ فَلَا تَعْصِيَ وَلَا تُطِيعَ»[1].
تنزّلتْ الآياتُ المباركةُ على نبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله)، بياناً للناسِ وموعظة، فهي تكشفُ عن حقائقَ قد تخفى على الإنسان، وتوقظُهُ إلى حقائقَ يعرفُها ولكنّه يغفلُ عنها، ومنها النظرةُ إلى هذه الدنيا، فالإسلامُ يبيّنُ للناسِ ثقافةَ الحياةِ الحقيقيّةِ والمنشودةِ، والمتمثّلةِ بالاستفادةِ منها كدارِ عبورٍ للآخرة. ومن هنا جاءت الروايةُ عن الإمامِ الصادقِ (عليه السلام) لتصحّحَ مفهومَ تمنّي الموت، وأنّهُ يكونُ خطأً إذا كانت الفرصةُ متاحةً للإنسانِ ليتزوّدَ لآخرتِه.
ويكشفُ النصُّ الواردُ في نهجِ البلاغةِ النظرةَ الإيجابيّةَ لهذه الدنيا، وكيف أنّها تتحوّلُ إلى نموذجٍ منشودٍ ومطلوب، فعن أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): «إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا، وَدَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا، وَدَارُ غِنىً لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا، وَدَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنْ اتَّعَظَ بِهَا. مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اللهِ، وَمُصَلَّى مَلاَئِكَةِ اللهِ، وَمَهْبِطُ وَحْيِ اللهِ، وَمَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ اللهِ، اكْتَسَبُوا فِيهَا الرَّحْمَةَ، وَرَبِحُوا فِيهَا الْجَنَّةَ»[2].
نعم، الغفلةُ عن هذهِ الصورةِ الحقيقيّةِ للدنيا، واعتبارُ أنّ الدنيا هي الغايةُ والنهايةُ؛ تجعلُ الإنسانَ في حالةِ عمًى، فعن أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): «إِنَّمَا الدُّنْيَا مُنْتَهَى بَصَرِ الْأَعْمَى، لَا يُبْصِرُ مِمَّا وَرَاءَهَا شَيْئاً، وَالْبَصِيرُ يَنْفُذُهَا بَصَرُهُ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا، فَالْبَصِيرُ مِنْهَا شَاخِصٌ، وَالْأَعْمَى إِلَيْهَا شَاخِصٌ، وَالْبَصِيرُ مِنْهَا مُتَزَوِّدٌ، وَالْأَعْمَى لَهَا مُتَزَوِّد»[3].
وهذا الأمرُ ينعكسُ كرهاً للموت، وخوفاً وفرَقاً منه، فعن الإمامِ الصادقِ، عن أبيه (عليهما السلام): «أتى النبيَّ (صلّى الله عليه وآله) رجلٌ، فقال: ما لي لا أحبُّ الموت؟ فقال له: ألَكَ مالٌ؟ قال: نعم. قال: فقدّمتَهُ؟ قال: لا. قال: فمِن ثمَّ لا تحبُّ الموت»[4].
لذا، فالبقاءُ في الدنيا يستدعي الجِدَّ والاجتهادَ في طاعةِ اللهِ عزّ وجلّ، فيعلّمُنا الإمامُ زينُ العابدينَ (عليه السلامُ) في الدعاءِ سؤالَ اللهِ التوفيقَ للطاعة: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ سَهَّلْتَ لَهُ طَرِيقَ الطَّاعَةِ بِالتَّوْفِيقِ فِي مَنَازِلِ الْأَبْرَارِ، فَحُيُّوا وَقُرِّبُوا وَأُكْرِمُوا وَزُيِّنُوا بِخِدْمَتِك»[5].
وعن الإمامِ الصادقِ (عليه السلام): «... فَأَعْطُوا اللَّهَ مِنْ أَنْفُسِكُمُ الِاجْتِهَادَ فِي طَاعَتِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُدْرَكُ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِه»[6].
ومِن هنا، يصبحُ الموتُ مطلوباً إذا كان باباً للخلاصِ مِن شرِّ الشيطان، وتصبحُ الدنيا مطلوبةً إذا كانت فرصةً للمزيدِ من اكتسابِ الطاعات، حتى يكونَ كُلُّ العمرِ طاعةً، فيؤدّي إلى رِفعةِ المنزلةِ في الآخرة.
ففي دعاءِ مكارمِ الأخلاق: «وَعَمِّرْنِي مَا كَانَ عُمْرِيْ بِذْلَةً فِي طَاعَتِكَ، فَإذَا كَانَ عُمْرِي مَرْتَعَاً لِلشَّيْطَانِ، فَـاقْبِضْنِي إلَيْـكَ، قَبْـلَ أَنْ يَسْبِقَ مَقْتُـكَ إلَيَّ، أَوْ يَسْتَحْكِمَ غَضَبُكَ عَلَيَّ»[7].
في الختام، نرفعُ آياتِ العزاءِ لصاحبِ العصرِ والزمانِ (عجّل الله فرجه الشريف)، ولوليِّ أمرِ المسلمينَ، وللمجاهدينَ جميعاً بذكرى شهادةِ الإمامِ الصادقِ (عليه السلام) في الخامسِ والعشرينَ مِن شوّال، من العام 148 للهجرة.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
[1] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، ج2، ص6.
[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص493، الحكمة 131.
[3] المصدر نفسه، ص192، الخطبة 133.
[4] الشيخ الصدوق، الخصال، ص13.
[5] الإمام زين العابدين (عليه السلام)، الصحيفة السجّاديّة (أبطحي)، ص474.
[6] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج8، ص7.
[7] الإمام زين العابدين (عليه السلام)، الصحيفة السجّاديّة، ص94.