مِن خطبةٍ لأميرِ المؤمنينَ (عليه السلام) يذكرُ فيها آلَ محمدٍ (صلّى الله عليه وآله): «هُمْ عَيْشُ الْعِلْمِ، ومَوْتُ الْجَهْلِ. يُخْبِرُكُمْ حِلْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ، وظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ، وصَمْتُهُمْ عَنْ حِكَمِ مَنْطِقِهِمْ. لَا يُخَالِفُونَ الْحَقَّ، ولَا يَخْتَلِفُونَ فِيه»[1].
لَمّا كان المطلوبُ تثبيتَ مرجعيةِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) في نفوسِ الناس، كان لا بدّ مِنَ التذكيرِ بمنزلتِهِم ومكانتِهِم دائماً، فيَذكُرُ الإمامُ (عليه السلام) صفاتِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام)، ومِن تلك الصفاتِ صفةُ العِلم، وهي من الصفاتِ البارزةِ فيهم، والتي تُثْبتُ لهم حقَّ التقدّمِ على كلِّ الناسِ في كلّ زمان، فالعلمُ بهم يحيا، كما أنّ الجهلَ بهم يموت؛ لأنّهم يبثّون معارفَ الإسلامِ بين الناس. وفي تعبيرِ الإمامِ (عليه السلام) بلاغةٌ خاصةٌ، حيث عَبَّرَ عنهم بأنهم هم أنفُسَهم عيشُ العلمِ وموتُ الجهل.
وما يترتّبُ على هذه الصفةِ هي آثارٌ تدلُّ على عظمةِ عِلمِهِم، وهي:
الحِلْم، فبالنظرِ إلى المواضعِ التي يَظهَرُ فيها حِلمُهُم، يدركُ الإنسانُ عظمةَ عِلمِهِم، فهم يضعونَ ذلك في موضِعِهِ فقط.
سيرتُهُمُ الظاهريةُ الكاشفةُ عن علمِهِم، فهم لا يتصرّفون إلّا بحكمة، ولا يَظهرُ منهم سلوكٌ دونَ غايةٍ وهدف.
صمتُهم، الذي يكونُ في المواردِ التي ينبغي فيها ذلك. يقولُ (عليه السلام): «فِيهِمْ كَرَائِمُ الْقُرْآنِ، وَهُمْ كُنُوزُ الرَّحْمنِ. إِنْ نَطَقُوا صَدَقُوا، وَإِنْ صَمَتُوا لَمْ يُسْبَقُوا»[2]. ويشيرُ الإمامُ إلى هذه الصفاتِ في كلامٍ آخرَ له، حيثُ يقول: «همُ الَّذين يُخبِرُكُم حكمُهُم عن عِلمِهِم، وصمتُهُم عن منطقِهِم، وظاهرُهُم عن باطنِهِم»[3].
لأنّ الحقَّ ملازمٌ لهم، يدور معهم، فهم لا يخالفونه، وفي هذا إشارةٌ إلى عصمتِهِم، كما أنهم لا يختلفون فيه، بل منطقُهُم واحد، فلا تجدُ لهم آراءَ مختلفةً بينهم. ومَن يحمِلُ هذه الصفةَ، هو الذي ينبغي أن يَتمَّ اتّباعُهُ وملازمتُه، فمِن كلامٍ له (عليه السلام) أيضاً يصفُ أهلَ البيتِ (عليهم السلام): «هم أساسُ الدين، وعمادُ اليقين، وإليهم يفيءُ الغالي، وبهم يلحقُ التالي، ولهم خصائصُ حقِّ الولاية، وفيهم الوصيّةُ والوراثة»[4].
ومِن مظاهرِ تثبيتِ مكانةِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) في نفوسِ الناسِ؛ آيةُ المباهَلة، ففي الروايةِ عنِ الإمامِ موسى بنِ جعفرٍ (عليهما السلام) في حديثٍ له معَ هارونَ الرشيد، قال الرشيدُ له: كَيْفَ قُلْتُمْ إِنَّا ذُرِّيَّةُ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله)، وَالنَّبِيُّ لَمْ يُعْقِبْ، وَإِنَّمَا الْعَقِبُ لِلذَّكَرِ لَا لِلْأُنْثَى، وَأَنْتُمْ وُلْدُ الْبِنْتِ، وَلَا يَكُونُ لَهَا عَقِب؟ فقالَ لهُ الإمامُ (عليه السلام) قولَ اللهِ -عزَّ وجلّ-: ﴿فَمَنْ حَآجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾[5]، ولم يَدَّعِ أحدٌ أنّهُ أَدخَلَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله) تحتَ الكساءِ عندَ المباهَلةِ مع النصارى إلّا عليَّ بنَ أبي طالبٍ (عليه السلام)، وفاطمةَ (عليها السلام)، والحسنَ (عليه السلام)، والحسينَ (عليه السلام)، فكان تأويلُ قولِهِ ﴿أبناءَنا﴾ الحسنَ والحسينَ (عليهما السلام)، و«نساءَنا» فاطمةَ (عليها السلام)، و«أنفسنا» عليَّ بنَ أبي طالبٍ (عليه السلام) [6].
[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص357، الخطبة 239.
[2] المصدر نفسه، ص215، الخطبة 154.
[3] المصدر نفسه، ص206، الخطبة 147.
[4] المصدر نفسه، ص47، الخطبة 83.
[5] سورة آل عمران، الآية 61.
[6] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، ج1، ص84.