روى الشيخُ الصَدوقُ عنِ الإمامِ الصادقِ عنْ آبائِه (عليهمُ السلام) قال: قالَ أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام): «كانتِ الفُقَهاءُ والحُكَماءُ إذا كاتَبَ بَعضُهُم بَعْضاً كَتَبوا بثَلاثٍ ليسَ مَعَهُنَّ رابِعَةٌ: مَن كانتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ كَفاهُ اللَّهُ هَمَّهُ مِن الدُّنيا، ومَن أصْلَحَ سَريرَتَهُ أصْلَحَ اللَّهُ عَلانِيَتَهُ، ومَن أصْلَحَ فيما بَيْنَهُ وبَينَ اللَّهِ أصْلَحَ اللَّهُ فيما بَينَهُ وبينَ النّاسِ»[1].
1ـ هَمُّ الآخرة: وذلكَ أنَّ أصنافَ الناسِ في التعاطي معَ الدنيا ثلاث: فمنهم مَن يجعلُ الدنيا أمامَ عينَيه، والآخرةَ خلفَ ظهرِه، وهؤلاءُ ذكرَهُم القرآنُ الكريمُ في قولِه تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾[2]. وقصورُ المعرفةِ والعلمِ هو الذي أردى به في هذه الهَلَكة، قال تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَّنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾[3].
ومنهُم مَن يجعلُ الدنيا أكبرَ همِّه، والآخرةُ -مع ذلك- نصبَ عينَيه، فهو بمقدارِ ذلك يبتعدُ عن الآخرة، فعنْ أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): «إِنَّ الدُّنْيَا والآْخِرَةَ عَدُوَّانِ مُتَفَاوِتَانِ، وسَبِيلَانِ مُخْتَلِفَانِ فَمَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا وتَوَلَّاهَا أَبْغَضَ الآْخِرَةَ وعَادَاهَا، وهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ، ومَاشٍ بَيْنَهُمَا كُلَّمَا قَرُبَ مِنْ وَاحِدٍ بَعُدَ مِنَ الآْخَرِ، وهُمَا بَعْدُ ضَرَّتَانِ»[4].
ومنهُم مَن يجعلُ الدنيا وسيلة، والآخرةَ غاية، يقولُ أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام): «وعامِلٌ عَمِلَ في الدُّنيا لِما بَعدَها، فجاءَهُ الّذي لَهُ مِن الدُّنيا بغَيرِ عَمَلٍ، فأحرَزَ الحَظَّينِ مَعاً، ومَلَكَ الدّارَينِ جَميعاً، فأصبَحَ وَجيهاً عِندَ اللَّهِ، لا يَسألُ اللَّهَ حاجَةً فيَمنَعُهُ»[5].
2ـ صلاحُ السريرة: أي صلاحَ باطنِ الإنسان، بأنْ لا يُضمِرَ سوءاً وشرّاً، ولا يفعلُ المعصيةَ والسوءَ سرّاً ويجتبُهُما علانية، فعنِ الحارثِ الهمدانيّ، عنْ أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام) قال: قالَ رسولُ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلِه): «يا عليّ، ما مِن عبدٍ إلَّا وله جوَّانيُّ وبرَّانيُّ -يعني سريرةً وعلانية- فمَن أصلحَ جوّانيَّه أصلحَ اللهُ عزَّ وجلَّ برّانيَّه، ومَن أفسدَ جوّانيَّه أفسدَ اللهُ برَّانيَّه»[6].
وليتدبَّرِ الإنسانُ في عاقبةِ سوءِ السريرة، فعَن نَوفٌ البكاليّ قال: قالَ أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام): «يا نَوف! إيّاك أنْ تتزيّنَ للناسِ وتبارزَ اللهَ بالمعاصي، فيفضحَكَ اللهُ يومَ تَلْقاه»[7].
3ـ الطاعةُ للهِ عزَّ وجلَّ: وإنّما تكونُ العلاقةُ معَ اللهِ عزَّ وجلَّ متَّصفةً بالصلاحِ متى التزمَ الإنسانُ بأوامرِه عزَّ وجلَّ ونواهيه، فهو بذلك يُعطي الناسَ ما لهم مِن حقوق، ولا يعتدي عليهم بقولٍ ولا بفعل، وبذلكَ ينالُ رضى الناسِ.
ويصفُ أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام) هذا الإنسانَ في كلامٍ آخرَ له عليه السلام، فيقول: «فَمِنْ عَلَامَةِ أَحَدِهِمْ ... يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَه، ويُعْطِي مَنْ حَرَمَه، ويَصِلُ مَنْ قَطَعَه، بَعِيداً فُحْشُه، لَيِّناً قَوْلُه، غَائِباً مُنْكَرُه، حَاضِراً مَعْرُوفُه، مُقْبِلًا خَيْرُه، مُدْبِراً شَرُّه ... لَا يَحِيفُ [يعتدي] عَلَى مَنْ يُبْغِضُ، ولَا يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ... ولَا يُنَابِزُ بِالأَلْقَابِ، ولَا يُضَارُّ بِالْجَارِ، ولَا يَشْمَتُ بِالْمَصَائِبِ، ولَا يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ، ولَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ»[8].
[1] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج4، ص396.
[2] سورة يونس، الآية 7.
[3] سورة النجم، الآيتان 29 – 30.
[4] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص486، الحكمة 103.
[5] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص522، الحكمة 269.
[6] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، ص458.
[7] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص210.
[8] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص306، الخطبة 193.