عنِ الإمام مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عليه السَّلام): «وَجَدْتُ عِلْمَ النَّاسِ كُلَّهُ فِي أَرْبَعٍ: أَوَّلُهَا: أَنْ تَعْرِفَ رَبَّكَ، وَالثَّانِي: أَنْ تَعْرِفَ مَا صَنَعَ بِكَ، وَالثَّالِثُ: أَنْ تَعْرِفَ مَا أَرَادَ مِنْكَ، وَالرَّابِعُ: أَنْ تَعْرِفَ مَا يُخْرِجُكَ مِنْ دِينِكَ»([1]).
يرسُمُ الإمامُ الكاظمُ (عليه السلام) بكلماتٍ موجَزةٍ بليغةٍ العلومَ التي ينبغي للإنسانِ أنْ يعتنيَ بها؛ كونُها تحفظُ لهُ الهدفَ من وجودِه في هذه الدنيا، وهوَأنْ يكونَ عبداً للهِ عزَّ وجلَّ، فرَسْمُ العبوديّةِ يتحقَّقُ بالعلمِ والعملِ بهذه الأمور، قالَ العلَّامةُ المازندرانيّ: «ملخَّصُ القولِ في هذا الحديث: أنَّ الإنسانَ في أوَّلِ نشوئِه إلى نهايةِ عمرِه سائرٌ إلى اللهِ تعالى، فوجبَ عليه أنْ يعرفَه أوّلاً؛ لأنَّه المقصدُ في هذا المسير، وأنْ يعرفَ ما صنعَ به؛ لأنَّ تلكَ المعرفةَ تبعثُهُ على زيادةِ الرجاءِ والشوقِ إليه، وأنْ يعرفَ ما يعينُه في طريقِه وينفعُه عندَ الوصولِ إلى مقصدِه، ويوجبُ القربَ منه؛ ليحمِلَه مَعَه، وأنْ يعرفَ ما يضلُّه عن طريقِه، ويضرُّه عندَ الوصولِ إلى الغاية، ويوجبُ البعدَ مِنَ المقصدِ؛ ليرفضَه عن نفْسِه»([2]).
أَوَّلُهَا: أَنْ تَعْرِفَ رَبَّكَ: فاللازمُ على العبدِ أنْ يعرفَ ربَّه، وهذه المعرفةُ مزروعةٌ بالفطرةِ في الإنسانِ الذي عليهِ أنْ يحفظَ إيمانَه الفطريّ، ويعزِّزَه بالأدلَّةِ والبراهينِ العقليّةِ والقلبيّةِ التي تجعلُه يعرفُ اللهَ عزَّ وجلَّ بصفاتِه، ومنْ خلالِ الرجوعِ إلى الثِقْلَين؛ أي كتابِ اللهِ والعترةِ الطاهرة (سلامُ اللهِ عليهمْ أجمعين).
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ تَعْرِفَ مَا صَنَعَ بِكَ؛ أي معرفةَ النفس، قالَ العلَّامةُ المجلسيُّ (قُدِّسَ سِرُّه): «مَعْرِفَةُ مَا صَنَعَ بِكَ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي يَتَعَيَّنُ عَلَيْكَ لِأَجْلِهَا الشُّكْرُ وَالْعِبَادَةُ»([3])؛ فالإنسانُ في كلِّ لحظةٍ في حياتِه يعيشُ بنِعَمِ اللهِ عزَّ وجلَّ ظاهرةً وباطنة، وأعظمُ هذهِ النِعَمِ الهدايةُ التي زرَعَها في هذهِ النفسِ نحوَ الحقِّ ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهاَ﴾([4]). ومتى عرفَ الإنسانُ نعمةَ اللهِ هذهِ ذهبَ باتّجاهِ تزكيتِها وتربيتِها ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهاَ﴾([5]).
وَالثَّالِثَةُ: أَنْ تَعْرِفَ مَا أَرَادَ مِنْكَ؛ أي معرفةَ الفرائضِ واجبةً ومستحبّة، قالَ العلَّامةُ المجلسيُّ (قُدِّسَ سِرُّهُ): «أَنْ تَعْرِفَ مَا أَرَادَهُ مِنْكَ فِيمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْكَ، وَنَدَبَكَ إلى فِعْلِهِ، لِتَفْعَلَهُ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي أَرَادَهُ مِنْكَ، فَتَسْتَحِقَّ بِذَلِكَ الثَّوَابَ»([6]). وفي عهدِ أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام) لمالكٍ الأشتر: «وَلْيَكُنْ فِي خَاصَّةِ مَا تُخْلِصُ بِهِ لِلَّهِ دِينَكَ إِقَامَةُ فَرَائِضِهِ الَّتِي هِيَ لَهُ خَاصَّةً، فَأَعْطِ اللَّهَ مِنْ بَدَنِكَ فِي لَيْلِكَ وَنَهَارِكَ، وَوَفِّ مَا تَقَرَّبْتَ بِهِ إلى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ كَامِلاً غَيْرَ مَثْلُومٍ وَلَا مَنْقُوصٍ، بَالِغاً مِنْ بَدَنِكَ مَا بَلَغَ»([7]).
وَالرَّابِعَةُ: أَنْ تَعْرِفَ مَا يُخْرِجُكَ مِنْ دِينِكَ؛ أي معرفةَ العقيدةِ الصحيحةِ حتَّى لا يخرجَ مِنَ الإيمانِ إلى الكفر، ومعرفةَ ما نهى اللهُ عزَّ وجلَّ مِنَ المحرَّماتِ حتَّى لا يقعَ في معصيةٍ توجِبُ غضبَ اللهِ عزَّ وجلَّ عليه، ومعرفةَ الخصالِ السيّئةِ في الجانبِ الأخلاقيِّ؛ مِنَ الشَرَهِ والغضبِ والحسدِ ونحوِها حتّى لا يقعَ فيها فتبعدُه عَنِ اللهِ عزَّ وجلّ.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
([1]) الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص50.
([2]) المولى صالح المازندراني، شرح الكافي، ج2، ص242.
([3]) العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج75، ص328.
([4]) سورة الشمس، الآيتان 7 و8.
([5]) سورة الشمس، الآية 9.
([6]) العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج75، ص328.
([7]) السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص440، الكتاب 53.