عَنِ الإمامِ الحسنِ بنِ عليٍّ العسكريِّ (عليه السلام): «مَنْ كَانَ الْوَرَعُ سَجِيَّتَهُ، وَالْإِفْضَالُ جَنِيَّتَهُ؛ انْتَصَرَ مِنْ أَعْدَائِهِ بِحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَتَحَصَّنَ بِالذِّكْرِ الْجَمِيلِ مِنْ وُصُولِ نَقْصٍ إِلَيْهِ»[1].
يسعى الإنسانُ ليمتلكَ مِن عناصرِ القوَّةِ ما يَجعلُ له الغلبةَ على أعدائِه، ولكي يكونَ له ما يتحصَّنُ به عندَ مهاجمتِهم إيَّاه، بما يحفظُ نفْسَه منْ وصولِ الضررِ إليهِ، أو لحوقِ الأذى بِه. وغالباً ما يظنُّ الناسُ أنَّ الأمرَ يتحقَّقُ بجمعِ العناصرِ المادِّيَّة، ولكنَّ الإمامَ العسكريَّ (عليه السلام)، في وصيَّتِه هذه، يرشدُنا إلى أنَّ وسائلَ القوَّةِ المعنويَّةَ، بامتلاكِ صفاتِ الكمالِ الإنسانيّ، تجعلُ الإنسانَ ينتصرُ على أعدائِه.
ويبيِّنُ الإمامُ العسكريُّ (عليه السلام) في الحديثِ صفتَينِ وثمرتَين:
1ـ الصفةُ الأولى: عندما يصبحُ الورعُ طبعاً مجبولاً عليه الإنسان، وصفةً لازمةً له، كانَ بمنأىً عنِ المعاصي، بل كانَ مواظباً على اجتنابِ الشُبُهاتِ خوفاً مِنِ ارتكابِ المحرَّمات؛ ولذا يُعدُّ الورعُ أعلى مرتبةً مِنَ التقوى.
2ـ الإحسانُ: وهو العطاءُ دونَ مقابِل، حتّى إلى غيرِ المستَحِقّ؛ وهذا ما وردَ وصفُه في دعاءِ مكارمِ الأخلاقِ للإمامِ زينِ العابدينَ (عليه السلام) بأنَّه زينةُ أهلِ التقوى: «اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَآلِه، وحَلِّني بحِلْيَةِ الصَّالِحِينَ، وأَلْبِسْني زينَةَ الْمُتَّقِينَ... في الإفْضَالِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ...» [2].
وصاحبُ الإحسانِ هوَ الذي لا يحتاجُ إلى الناس، ويفيضُ عليهم ممَّا لديه، فعنِ الإمامِ زينِ العابدينَ (عليه السلام): «وَاعلَمْ، أنَّ أكرَمَ النّاسِ عَلَى النّاسِ، مَن كانَ خَيرُهُ عَلَيهِم فائِضاً، وكانَ عَنهُم مُستَغنِياً مُتَعَفِّفاً»[3].
وأمّا الثمرتان:
1ـ حُسنُ الثناء: فمَنْ كانَ بعيداً عنِ الشُبُهات، وكانَ صاحبَ عطاءٍ وكرمٍ على الناس، كانَ حديثُ الناسِ عنهُ بالخيرِ دائماً؛ إذِ البذْلُ سببٌ لاكتسابِ المحبَّةِ في قلوبِهم، فعَنِ الإمامِ الصادقِ (عليه السلام): «ثَلاثَةٌ تورِثُ المَحَبَّةَ: الدِينُ، وَالتَّواضُعُ، وَالبَذلُ»[4].
2ـ حصانةٌ مِنَ العَيب: وهيَ أعظمُ ثمرةٍ لأهلِ الورَعِ الذينَ يجتنبونَ الشُبُهات، ما يجعلُهم في حصانةٍ مِنَ الاتّهامِ بالسوء، فعَنِ الإمامِ عليٍّ (عليه السلام): «إيّاكَ ومَواطِنَ التُّهْمة، والمجلسَ المَظْنونَ بهِ السّوء؛ فإنَّ قَرينَ السُّوءِ يَغُرُّ جَلِيسَهُ»[5].
وكذلكَ، إنَّ الإنسانَ صاحبَ المعروفِ والخيرِ على الناسِ يكونُ ذكرُه بينَ الناسِ دائماً بالخير؛ لذا لا يَقبلُ الناسُ مِنْ أحدٍ اتهامَهُ بما يُشينُه؛ وبهذا يتحصَّنُ ممَّنْ يريدُ له السوء.
إذاً، الذي يريدُ أنْ يكونَ صاحبَ رفعةٍ بينَ الناسِ، عليه أنْ يلجأَ إلى أسلوبِ الإحسانِ إليهم، فعنْ أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): «فِعلُ المعروف، وإغاثةُ الملهوف، وإقراءُ الضيوف، آلةُ السيادة»[6].
وعنه (عليه السلام): «عجِبْتُ ممَّنْ يشتري المماليكَ بمالِه، كيفَ لا يشتري الأحرارَ بمعروفِهِ فيملِكَهُم!» [7].
ختاماً، نعزِّي صاحبَ العصرِ والزمانِ (عجَّلَ اللهُ تعالى فَرَجَه)، ووليَّ أمرِ المسلمين، والمجاهدينَ جميعاً، بذكرى شهادةِ الإمامِ الحسنِ العسكريِّ (عليه السلام) في الثامنِ مِن ربيعٍ الأوَّلِ منْ عامِ (260) للهجرة.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
[1] الحلوانيّ، نزهة الناظر وتنبيه الخاطر، ص147.
[2] الإمام زين العابدين (عليه السلام)، الصحيفة السجّاديّة، ص96، الدعاء 20.
[3] الإمام الحسن العسكريّ (عليه السلام)، التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ (عليه السلام)، ص27.
[4] ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول عن آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ص316.
[5] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، ص7.
[6] الآمديّ، غرر الحكم ودرر الكلم، ص484.
[7] ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول عن آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ص204.