يقولُ اللهُ تعالى في كتابِهِ العزيز: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾[1].
لقد شَبَّهَ القرآنُ الكريمُ في مواضعَ عديدةٍ عملَ الإنسانِ في الحياةِ الدنيا بالتجارة، وأنّ الناسَ في الحياةِ الدنيا تجّارٌ يأتون إلى هذا المتجرِ الكبيرِ برأسِ مالٍ وَهَبَهُ اللّهُ سبحانه وتعالى لهم، فمنهم مَن يربحُ ويَسعَدُ، ومنهم مَن لا يجني سوى الخيبةِ والخسران، ولذا يصفُ أميرُ المؤمنين (عليه السلام) الدنيا بأنها: «مَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ اَللَّهِ، اِكْتَسَبُوا فِيهَا اَلرَّحْمَةَ، وَرَبِحُوا فِيهَا اَلْجَنَّةَ»[2]. والمجاهدونَ هم خاصّةُ الأولياءِ الذينَ وَصَفَهُم (عليه السلام) بقوله: «إِنَّ اَلْجِهَادَ بَابٌ فَتَحَهُ اَللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ، وَسَوَّغَهُمْ كَرَامَةً مِنْهُ لَهُمْ، وَنِعْمَةٌ ذَخَرَهَا»[3].
ولأجلِ إيجادِ الرغبةِ لدى الإنسانِ بالإقدامِ على الإيمانِ والجهادِ في سبيلِ الله، تحدّثت الآياتُ المباركةُ بعرضٍ تجاريٍّ مقترنٍ بتعابيرَ تبيِّنُ اللطفَ اللامتناهي للبارئِ عزّ وجلّ، فمِمّا لا شكَّ فيهِ أنّ النجاةَ مِنَ العذابِ الأليمِ أمنيةُ كلِّ إنسان، وهذه النجاةُ موقوفةُ كما يقولُ تبارك وتعالى على أمرَينِ أساسَين: الإيمان، والجهاد.
والجهادُ بالنفسِ والمالِ هما مِن رأسِ مالِ هذه التجارةِ المنجيةِ مِنَ العذاب، فالجهادُ بالنفسِ لا ينفصلُ عنِ الجهادِ بالمال، ذلك أنَّ جميعَ الحروبِ تستلزمُ وجودَ الوسائلِ والإمكاناتِ المالية. وعند التدقيقِ في الآيةِ المباركة، نلاحظُ أنَّ اللهَ تعالى قد قَدَّمَ الجهادَ بالمالِ على الجهادِ بالنفس، لا باعتبارِهِ أكثرَ أهمّيّة، بل بلحاظِ أنّه مقدّمةٌ للجهادِ بالنفس؛ لأنّ مستلزماتِ الجهادِ لا تتهيّأُ إلّا عند توفّرِ الإمكاناتِ المادّيّة.
وكذلك الجهادُ بالألسنِ والكلمةِ التي تكونُ حقّاً في مواجهةِ العدوّ، فعن أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): «إنَّ أوَّلَ ما تُغْلَبُون علَيهِ من الجِهادِ: الجِهادُ بأيْديكُم ثُمَّ بألسِنَتِكُم ثُمَّ بقُلوبِكُم، فَمَنْ لَم يَعْرِفْ بقَلبِهِ مَعروفاً، ولَم يُنْكِرْ مُنْكَراً، قُلِبَ، فجُعِلَ أعْلاهُ أسْفَلَهُ»[4].
أمّا العِوضُ لهذه المعامَلة، فهي المغفرةُ والجنة، إذ إنَّ أوّلَ هديّةٍ يُتحِفُ اللّهُ سبحانهُ بها المجاهدين، مغفرةُ جميعِ الذنوب، فعنِ الإمامِ الباقرِ (عليه السلام): «أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي رَاغِبٌ فِي الْجِهَادِ نَشِيطٌ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): فَجَاهِدْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّكَ إِنْ تُقْتَلْ تَكُنْ حَيّاً عِنْدَ اللَّهِ تُرْزَقْ، وَإِنْ تَمُتْ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُكَ عَلَى اللَّهِ، وَإِنْ رَجَعْتَ رَجَعْتَ مِنَ الذُّنُوبِ كَمَا وُلِدْتَ»[5].
وأمّا مَن اتّخذهُ اللهُ شهيداً، فيكفي في عظمةِ الكرامةِ التي يلقاها ما رُويَ عن رسولِ اللّهِ (صلى الله عليه وآله): «ما مِن نفْسٍ تَموتُ، لها عندَ اللّهِ خَيرٌ يَسُرُّها، أنّها تَرجِعُ إلى الدنيا، ولا أنَّ لها الدنيا وما فيها، إلّا الشهيدَ؛ فإنّهُ يَتَمَنّى أن يَرجِعَ فَيُقتَلَ في الدنيا؛ لِما يَرى مِن فَضلِ الشهادَةِ»[6].
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
[1] سورة الصفّ، الآيات 10 - 13.
[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص493، الحكمة 131.
[3] الشيخ الطوسيّ، تهذيب الأحكام، ج6، ص123.
[4] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص542، الحكمة 375.
[5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص160.
[6] مسلم النيسابوريّ، صحيح مسلم، ج6، ص35.