إنَّ مِن أعظمِ صفاتِ المؤمنِ أنْ يكونَ للهِ عزَّ وجلَّ عابداً، قال تعالى: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾[1].
وتجلَّتِ العبوديَّةُ هذه في شخصيَّةِ النبيِّ (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه) وأهلِ بيتِه، ويصفُ الإمامُ الخمينيُّ (قُدِّسَ سِرُّه) ذلكَ بقولِه: «لا بُدَّ مِنَ الإشارةِ إلى أنَّ العبوديَّةَ المطلَقةَ هي مِن أعلى مراتبِ الكمال، ومِن أرفعِ مقاماتِ الإنسانيّة. ولا نصيبَ لأحدٍ مِنَ البشرِ منها إلّا لأكملِ خلقِ اللهِ محمَّدٍ (صلَّى اللهُ عليه وآلِه) أصالةً، ولسائرِ الأولياءِ الكُمَّلِ (عليهمُ السلام) تَبَعاً له».
وفي وصفِ اللهِ عزَّ وجلَّ لِمَن جعَلَهُ في مقامِ الإمامةِ للناس، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾[2]، فذكَرَ العبادةَ كعنوانٍ لنيلِهم ذلكَ المقام.
ومِن بينِ صفاتِ السيِّدةِ الزهراءِ (عليها السلام)، صفةُ العبادةِ التي كانتْ تتجلَّى في حضورِها في محرابِها، وقدْ وردَ في الروايةِ عنْ أحدِ أصحابِ الإمامِ الصادقِ (عليه السلام)، قال: سألتُ أبا عبدِ اللهِ عنْ فاطمةَ (عليها السلام)، لِمَ سُمِّيَتِ زهراء؟ فقال: «لأنَّها كانت إذا قامتْ في محرابِها، زَهَرَ نورُها لأهلِ السماءِ كما يُزهِرُ نورُ الكواكبِ لأهلِ الأرض»[3].
ووَصفَ الرسولُ الأكرمُ (صلَّى اللهُ عليه وآلِه) عبادةَ ابنتِه فاطمةَ (عليها السلام): «وأمَّا ابنتي فاطمة، فإنَّها سيِّدةُ نساءِ العالمينَ مِنَ الأوَّلينَ والآخِرِين، وهيَ بَضْعَةٌ منِّي، وهيَ نورُ عيني، وهي ثمَرةُ فؤادي، وهي روحيَ التي بينَ جنبَيَّ، وهي الحوراءُ الإنسيّة، متى قامتْ في محرابِها بينَ يدَي ربِّها جلَّ جلالُه، زَهَرَ نورُها لملائكةِ السماءِ كما يُزهِرُ نورُ الكواكبِ لأهلِ الأرض، ويقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ لملائكتِه: يا ملائكتي، انظروا إلى أَمَتِي فاطمةَ سيِّدةِ إمائي، قائمةً بينَ يدَيّ، ترتعدُ فرائصُها مِن خِيفتي، وقد أقبلتْ بقلبِها على عبادتي، أُشهِدُكُم أنِّي قدْ آمَنْتُ شيعتَها مِنَ النار»[4].
يقولُ الإمامُ الخامنئيُّ (دامَ ظلُّه): «إنَّ قيمةَ فاطمةَ الزهراءِ (عليها السلام) تكمُنُ في عبوديَّتِها لله، ولولا عبوديّتُها لَما اتّصفتْ بالصدِّيقةِ الكبرى؛ فالصدِّيقُ هو الشخصُ الذي يَظهَرُ ما يعتقِدُه، ويقولُهُ على سلوكِهِ وفعلِه، وكلَّما كانَ هذا الصدِّيقُ أكبر، كانتْ قيمةُ الإنسانِ أكثر، كما قالَ تعالى: ﴿فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ﴾[5]، حيثُ جاءَ ذِكْرُ الصدِّيقينَ بعدَ النبيِّين؛ فكانتْ هذهِ العظيمةُ صدِّيقةً كبرى؛ أي أفضلَ صدِّيقة، وكانت صدِّيقيَّتُها بعبادتِها لله؛ فالأساسُ هو عبادةُ الله؛ وهذا لا يختصُّ بفاطمةَ الزهراءِ (عليها السلام)، فحتّى أبوها الذي يُعَدُّ مصدرَ فضائلِ المعصومينَ جميعاً، والذي يُشكِّلُ أميرُ المؤمنينَ وفاطمةُ الزهراءُ قطراتِ بحرِ وجودِه المتلاطم، إنَّما كانتْ قيمتُه عندَ اللهِ بفضلِ عبوديَّتِه، «أَشهدُ أنَّ محمّداً عبدُه ورسولُه»، فقدْ جاءَ ذِكْرُ العبوديَّةِ قبلَ الرسالة، بل إنَّ الرسالةَ إنَّما أُعطِيَتْ لهُ لعبادتِه؛ لأنَّ اللهَ تعالى يَعلمُ بمخلوقِه وما تصنَعُ يداه، أَفَلسْنا نقرأُ في زيارةِ الزهراءِ (عليها السلام): «امتحَنَكِ اللهُ الذي خلقَكِ قبلَ أنْ يخلُقَكِ»![6].
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
[1] سورة التوبة، الآية 112.
[2] سورة الأنبياء، الآية 73.
[3] الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، ص64.
[4] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج28، ص38.
[5] سورة النساء، الآية 69.
[6] الشيخ الطوسيّ، تهذيب الأحكام، ج6، ص10.