عنِ الإمامِ الحسنِ (عليه السلام): «لا تخرجُ نفسُ ابنِ آدمَ منَ الدنيا إلّا بحسراتٍ ثلاثٍ؛ أنَّهُ لمْ يشبعْ ممَّا جمعَ، ولمْ يُدرِكْ ما أمَّلَ، ولمْ يُحسِنِ الزادَ لِما يقدمُ عليهِ»[1].
الموتُ مصيرٌ محتومٌ لهذا الإنسانِ، ولا بدَّ مِنْ ساعةِ نهايةٍ لهذهِ الحياةِ الدنيا، والسعيدُ مَنْ خرجَ منها بغيرِ حسرةٍ عليها، وهمْ أصحابُ العقلِ الّذينَ أدركُوا أنَّ مآلَهُم ومرجعَهُم إلى الآخرةِ فبنَوا لها، وينقلُ العلّامةُ النراقِيُّ في «جامعِ السعاداتِ» قولَ أحدِ الحكماءِ: «العقلاءُ ثلاثةٌ: مَنْ تركَ الدنيا قبلَ أنْ تتركَهُ، وبنى قبرَهُ قبلَ أنْ يدخلَهُ، وارتضى خالقَهُ قبلَ أنْ يلقاهُ»[2].
يبيِّنُ الإمامُ الحسنُ (عليه السلام) أصنافَ ثلاثٍ مِنَ الحسراتِ الّتي يخرجُ بها بعضُ الناسِ مِنْ هذهِ الدنيا:
1. لم يشبعْ ممَّا جمعَ: فكلُّ ما ينالُهُ الإنسانُ في هذهِ الدنيا، قليلاً كانَ أمْ كثيراً، لنْ يشبعَ منهُ؛ لأنَّ النفسَ تطمعُ في المزيدِ، وردَ عنْ رسولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله): «منهومانِ لا يشبعانِ: طالبُ علمٍ وطالبُ دنيا؛ فأمّا طالبُ العلمِ فيزدادُ رضى الرحمنِ، وأمّا طالبُ الدنيا فيتمادى في الطغيانِ»[3].
لذا، فإنَّ عدمَ الشبعِ ممَّا وصلَ إليهِ؛ لأنَّ النفسَ تطلبُ المزيدَ دائماً، رُويَ عنْ أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): «مَنْ كانَ مِنْ قوتِ الدنيا لا يشبعُ، لمْ يكفِهِ منها ما يجمَعُ»[4].
وأيضاً، صفةُ الحرصِ في الإنسانِ تجعلُهُ لا يشعرُ بالشبعِ، مهما نالَ مِنْ هذهِ الدنيا، فعَنِ النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله): «مَنْ آثرَ الدنيا على الآخرةِ، ابتلاهُ اللهُ بثلاثٍ: همٍّ لا يفارقُ قلبَهُ أبداً، وفقرٍ لا يستغني معهُ أبداً، وحِرْصٍ لا يشبعُ معهُ أبداً»[5].
2. لمْ يُدرِكْ ما أمَّلَ: وذلكَ لأنَّ صاحبَ الدنيا ابتُليَ بطولِ الأملِ، وهذا هوَ السببُ في أنَّهُ لنْ يُدرِكَ في الدنيا أملَهُ؛ إذْ إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ جعلَ لهُ أجلاً سيأتيهِ قبلَ أملِهِ الطويلِ، وفي الروايةِ أنَّ رسولَ اللهِ (صلّى الله عليه وآله) أخذَ ثلاثةَ أعوادٍ، فغرسَ عوداً بينَ يدَيهِ، والآخرَ إلى جنبِهِ، وأمّا الثالثَ فأبعدَهُ، وقالَ: «هلْ تدرونَ ما هذا؟»، قالوا: اللهُ ورسولُهُ أعلمُ، قال: «هذا الإنسانُ، وهذا الأجلُ، وهذا الأملُ يتعاطاهُ ابنُ آدمَ، ويختلجُهُ الأجلُ دونَ الأملِ»[6]. فأجلُهُ متوسِّطٌ بينَهُ وبينَ أملِهِ، يأتيهِ ويحِلُّ عليهِ بالحسرةِ؛ إذْ لمْ يصِلْ إلى مطلوبِهِ.
3. لمْ يُحِسنِ الزادَ لِما قَدِمَ عليهِ: يحثُّ أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام) في الكثيرِ مِنْ كلامِهِ على التزوُّدِ للآخرةِ، يقولُ (عليه السلام): «فَاتَّقُوا اللَّه عِبَادَ اللَّهِ، وبَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ... وإِنَّ قَادِماً يَقْدُمُ بِالْفَوْزِ أَوِ الشِّقْوَةِ، لَمُسْتَحِقٌّ لأَفْضَلِ الْعُدَّةِ؛ فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا، مَا تَحْرُزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَداً»[7].
وعنِ النبيِّ (صلّى الله عليه وآله): «أتدرونَ ما المفلسُ؟»، فقيل: المفلسُ فينا مَنْ لا درهمَ لهُ ولا متاعَ لهُ، فقالَ: «المفلسُ مِنْ أمّتي مَنْ يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قدْ شتمَ وقذفَ هذا، وأكلَ مالَ هذا، وسفكَ دمَ هذا، وضربَ هذا، فيُعطى هذا مِنْ حسناتِهِ، وهذا مِنْ حسناتِهِ، فإنْ فنيَتْ حسناتُهُ قبلَ أنْ يقضيَ ما عليهِ، أُخِذِ مِنْ خطاياهُم فَطُرِحَتْ عليهِ، ثمَّ طُرِحَ في النارِ»[8].
نباركُ لصاحبِ العصرِ والزمانِ (عجّلَ اللهُ تعالى فرجَهُ الشريفُ) ولوليِّ أمرِ المسلمينَ وللمجاهدينَ جميعاً ذكرى الولادةِ العطرةِ لكريمِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) الإمامِ الحسنِ بنِ عليٍّ (عليهما السلام).
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
[1] الغزاليّ، إحياء علوم الدين، ج9، ص169.
[2] العلّامة النراقيّ، جامع السعادات، ج2، ص27.
[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج1، ص182.
[4] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول، ص212.
[5] الفيض الكاشانيّ، المحجّة البيضاء في تهذيب الأحياء، ج7، ص355.
[6] ورّام بن أبي فراس، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورّام)، ج1، ص280.
[7] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص95، الخطبة 64.
[8] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج69، ص6.