بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين، سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
إلى مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى نائبه وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى مراجعنا وقادتنا العظام، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات التهنئة في هذا اليوم المبارك، عيد الأضحى.
إنّ العيد في الرؤية الإسلاميّة هو شكر للمُنعِم، واعترافٌ بفضله، واستبشارٌ بنعمته. هو مناسبة كريمة للتواصل والتوادّ والتراحم، هو فرصة ثمينة لتنمية بذرة الحبّ والعطف والمعروف والإحسان، هو يوم للأطفال يفيض عليهم بالفرح والمرح، ويوم للفقراء يلقاهم باليسر والسعة، ويومُ للأرحام يجمعها على البرّ والصلة...
العيد مسؤوليّة اجتماعيّة، ترابط بين المجتمع، إدخال السرور في مختلف جوانب الحياة؛ من السلام والتزاور والتكاتف والتعاون وقضاء حوائج المؤمنين ومواساتهم في آمالهم وآلامهم، وهذا ما كان في وصايا أئمّتنا (عليهم السلام) لنا، فعن الإمام الباقر (عليه السلام): «لَمَّا احْتُضِرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، جَمَعَ بَنِيهِ: حَسَناً وَحُسَيْناً وَابْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْأَصَاغِرَ مِنْ وُلْدِهِ، فَوَصَّاهُمْ، وَكَانَ فِي آخِرِ وَصِيَّتِهِ: يَا بَنِيَّ، عَاشِرُوا النَّاسَ عِشْرَةً؛ إِنْ غِبْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ، وَإِنْ فُقِدْتُمْ بَكَوْا عَلَيْكُمْ. يَا بَنَيَّ، إِنَّ الْقُلُوبَ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، تَتَلَاحَظُ بِالْمَوَدَّةِ، وَتَتَنَاجَى بِهَا، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي الْبُغْضِ؛ فَإِذَا أَحْبَبْتُمُ الرَّجُلَ مِنْ غَيْرِ خَيْرٍ سَبَقَ مِنْهُ إِلَيْكُمْ فَارْجُوهُ، وَإِذَا أَبْغَضْتُمُ الرَّجُلَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ سَبَقَ مِنْهُ إِلَيْكُمْ فَاحْذَرُوهُ»[1].
يوم التضحية والفداء
وإنّ العاشر من ذي الحجّة، هو يومٌ من الأيّام الّتي اختارها الله تعالى، وهو عيد الأضحى، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «وأمّا خيرته من الأيّام: فيوم الفطر، ويوم عرفة، ويوم الأضحى، ويوم الجمعة»[2].
يأتي هذا العيد في صلب مقاصد الحجّ وفلسفته؛ إذ ثمّة دلالة عظيمة لأن يكون هذا العيد في قلب أيّام الحجّ وأعماله. وقد سُمّي الأضحى لأنّ الحاجّ يُقدّم فيه أضحيةً، فكأنّها فداء عن الذات لله سبحانه، كما فدى الله نبيَّه إسماعيل (عليه السلام) بالضأن، في حادثةٍ مثّلت امتحاناً إلهيّاً عظيماً، بل من أعظم ما يمكن أن يتعرّض له الإنسان، امتحاناً وصفه القرآن الكريم بالبلاء المبين، إذ يقول تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾[3].
لقد أراد الله سبحانه بهذه الأضحية أن يذكّر الناس بالامتحان العظيم الذي مرّ على خليله إبراهيم (عليه السلام)، حين أمره سبحانه بأن يذبح ابنه إسماعيل، يقول تعالى: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ* وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ﴾[4].
لقد فاز النبيّ إبراهيم (عليه السلام) في هذا الامتحان، وفاز معه ابنه النبيّ إسماعيل (عليه السلام) ذبيح الله، وقد أراد الله لهذا الامتحان أن يُخلّد في الناس، لعِظم ما فيه من موعظة وعِبرة، كما أراد تعالى أن يستحضر الإنسان هذا الموقف العظيم والبلاء المبين بالأضحية الّتي يفدي بها، ويتقرّب بها إليه سبحانه.
آثار تربويّة واجتماعيّة
هذا، وللحجّ، تلك الفريضة العظيمة، آثار تربويّة وأبعاد فرديّة واجتماعيّة عظيمة وعديدة، نذكر منها:
1. تربية النفس
الحجّ مظهر من مظاهر مجاهدة الفرد لميوله الشخصيّة، وطموحاته الّتي قد تتعارض والمصالحَ العامّة، هو وسيلة عظيمة لكبح جموح الأنا؛ فهذا الزيّ الموحّد الّذي يرتديه الحاجّ مثلاً، بصرف النظر عن مركزه الاجتماعيّ، وتلك الأدعية الّتي يردّدها الحجّاج جميعاً، وذلك الاجتماع في مكان واحد وزمن واحد، للقيام بالمناسك الواحدة، من دون تفاضل وتفاوت بين إنسانٍ وآخر، ما هي إلّا عمليّة توحيدٍ لفصائل المجتمع كلّها، من دون لحاظٍ للفروقات الاجتماعيّة والاعتبارات الدنيويّة وغيرها؛ لأنّ المجتمع الإسلاميّ السليم هو مجتمع لا يعترف في مجال التفاضل بشيء سوى التقوى، فلا مكانة للقوميّات والطبقيّات وغيرها. الإسلام دين إلهيّ يسع جميع أفراد الإنسان، والناس فيه سواسية كأسنان المشط. عن عقبة بن بشير الأسديّ، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أنا عقبة بن بشير الأسديّ، وأنا في الحسب الضخم من قومي، قال: فقال: «ما تمنّ علينا بحسبك؟ إنّ الله رفع بالإيمان من كان الناس يسمّونه وضيعاً إذا كان مؤمناً، ووضع بالكفر من كان الناس يسمّونه شريفاً إذا كان كافراً، فليس لأحد فضل على أحد إلّا بالتقوى»[5].
2. الحجّ ثورة على العادة
ومن الآثار التربويّة للحجّ كونه ثورة ضدّ التقليد والنمطيّة والعادات الّتي يعيشها الإنسان في حياته بكافّة أشكالها، ليعيش نمطاً جديداً ومغايراً من الحياة في أيّام الحجّ، حياة تحمل من إيحاءاتها ودلالاتها ما يَثقُل وزنه في سلوكه ووجدانه. فمنذ اللحظة الأولى، يتخلّى الحاجّ في حياته الجديدة هذه عن أنواع اللباس والطيب والزينة وملذّات الدنيا، ويرتدي لباساً خاصّاً، من رداء وإزار أبيضَين غير مخيطَين، يشبه ذلك اللباس الّذي يخرج فيه الإنسان من الدنيا. ثمّ تؤكّد باقي المناسك شكل هذه الحياة المنتظمة القائمة على منهج الله، وتكرّس في نفس صاحبها روح الخير والبذل والعطاء من خلال ما يغدقه الحاجّ في سبيل هذه الفريضة ومناسكها، وتعوّده على النظام والجدّيّة والمسؤوليّة في الحياة، بالتزامه نظاماً دقيقاً شاملاً لجميع شؤون الفرد، لباساً وطعاماً وجسداً وزماناً ومكاناً ومجتمعاً...
إنّ الحياة في كافّة تفاصيلها ينبغي أن تكون لله تعالى، وينبغي أن يضع الإنسان نصب عينيه الآخرة، يعمل لكي يُزحزَح عن النار، ويفوز بالجنّة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثيّ -وهو من أصحابه- يعوده، فلمّا رأى سعة داره، قال: «مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هَذِه الدَّارِ فِي الدُّنْيَا، وأَنْتَ إِلَيْهَا فِي الآخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ؟! وبَلَى، إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الآخِرَةَ؛ تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ، وتَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ، وتُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا، فَإِذاً أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الآخِرَةَ»[6].
3. الحجّ ترسيخ للوحدة
إنّ الحجّ ليس مجرّد فريضة تهذّب النفس وتعصم السلوك فحسب، بل هو أيضاً عنوان للأخوّة والإنسانيّة العامّة، فأرض الحجّ هي البلد الحرام، والبيت الحرام آمن: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنً﴾[7]؛ أمان فريد في نوعه، يشمل الطير والصيد والنبات، فضلاً عن الإنسان، وإنّ المسلم حين يُحرم بالحجّ يظلّ مدّة إحرامه في سلام حقيقيّ مع من حوله، وتلك فرصة عظيمة تنبغي الاستفادة منها في التعارف والتقارب وبناء العلاقات مع سائر المسلمين من أنحاء العالم، يقول الإمام الخمينيّ (قُدَّس سرُّه): «الحجّ أفضل ملتقى لتعارف الشعوب الإسلاميّة، حينما يجتمع المسلمون من كلّ حدب وصوب، ويستبعدون كلّ الفوارق، من اللون والقوميّة والنسب، ويستعرضون المنظر الرائع لتبلور الأمّة المحمّديّة في العالم»[8].
4. الحجّ عبادة وسياسة
لقد ركّز الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرُّه) في أكثر نداءاته التي كان يطلقها في موسم الحجّ على ضرورة إعلان البراءة من المشركين كأمر واجب لا بدّ منه لكلّ فرد موحِّد؛ لأنّه يُعَدّ من الأركان والواجبات السياسيّة للحجّ، ويجب أن تقام في أيّام الحجّ بكلّ صلابة وعظمة.
يقول (قُدِّس سرُّه): «من غير الممكن أن يتوجّه حجّاجنا لأداء مناسك الحجّ، ولا يقوموا بالتظاهر ضدّ الاستكبار العالميّ؛ إنّ البراءة من المشركين تُعَدّ أساساً من الواجبات السياسيّة للحجّ، ومن دونها لا يكون حجّنا حجّاً»[9].
وما أحوجنا اليوم إلى تلبية هذا النداء العظيم من جميع مسلمي العالم، إذ تأتي فريضة الحجّ هذا العام، وفلسطين تنزف دماً، وتقاوم تلك الغدّة السرطانيّة الّتي فتكت بالأمّة الإسلاميّة وأضعفتها.
إنّ من أهمّ واجباتنا في هذا العصر، والّذي أكّد ضرورته الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرُّه) والإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، السعي والعمل على إزالة هذا الكيان الغاصب من الوجود.
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «ارتكب الصهاينة في فلسطين جرائم ومجازر كثيرة؛ لكن هذه السنوات الـ66، وتحت اسم حكومة ونظام سياسيّ، قد قاموا بكلّ ما استطاعوا من جرائم، بكلّ ما يخطر على الذهن من العنف والهمجيّة الّتي يمكن لنظام أن يقوم به ضدّ شعب ما، قاموا بكلّ هذا من دون أيّ اكتراث؛ هذه هي حقيقة النظام الصهيونيّ؛ ولا علاج له ولا حلّ إلّا بزوال هذا النظام من الوجود»[10].
أسعد الله أيّامكم، وتقبّل أعمالكم وطاعاتكم، وأعاده على أمّتنا بالخير والعافية والنصر المبين بزوال هذا الكيان الغاصب، إنّه سميع مجيب، وكلّ عام وأنتم بخير.
[1] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، ص595.
[2] الروانديّ، النوادر، ص261.
[3] سورة الصافّات، الآية 106.
[4] سورة الصافّات، الآيات 102 – 108.
[5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2ـ، ص328.
[6] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص324، الخطبة 209.
[7] سورة آل عمران، الآية 97.
[8] الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرُّه)، صحيفة الإمام، ج20، ص277.
[9] الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرُّه)، صحيفة الإمام، ج21، ص30.
[10] من كلامٍ للإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، بتاريخ 23/07/2014م.