قالَ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾[1].
تتحدّثُ الآياتُ المباركةُ عنْ قتلِ الشهادةِ، حيثُ يكونُ في سبيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وتذكرُ ثلاثَ مواهبَ، خصَّ اللهُ تعالى بها الشهداءَ، وهيَ:
1. أنَّ اللهَ تعالى لنْ يتركَ أعمالَهُم الصالحةَ الّتي أتَوا بها في سبيلِ اللهِ تذهبُ سُدىً، فهيَ سوفَ تُثمِرُ في الدنيا نصراً وعزّاً، كما أنَّها سوفَ تُثمِرُ في الآخرةِ، حيثُ تظهرُ نتائجُ أعمالِهِم عندما يَصِلونَ إلى منازلِ السعادةِ، والكرامةِ، والكمالاتِ الإنسانيّةِ، والمقاماتِ الساميِة، والفوزِ العظيمِ، ورضوانِهِ تعالى.
2. أنَّهُ سيُصلِحُ حالَهُم بالمغفرةِ والعفوِ، فَهُم أهلُ الجنّةِ وأصحابُها، ويُحييهِم حياةً يَصلُحونَ بها للحضورِ عندَ ربِّهِم بانكشافِ الغطاءِ، ويَهبُهُم هدوءَ الروحِ، واطمئنانَ الخاطرِ، والنشاطَ المعنويَّ والروحيَّ.
3. أنَّهُ سيُدخِلُهُم الجنّةَ الّتي وعدَهُم بها وادَّخرَها لهُم، والّتي سبقَ أنْ عرَّفَها لهُم؛ إمّا في الدنيا عنْ طريقِ الوحيِ والنبوّةِ، وإمّا بالبُشرى عندَ القبضِ، «قال بعضُ المفسِّرينَ: إنَّهُ تعالى لم يُبينْ لهُم الصفاتِ الكلّيّةَ للجنّاتِ العُلى وروضةِ الرضوانِ وحسب، بلْ عرَّفَ لهُم صفاتِ قصورِهِم في الجنّةِ وعلاماتِها، بحيثُ إنَّهُم عندما يَرِدونَ الجنّةَ يتوجَّهونَ إلى قصورِهِم مباشرةً»[2].
وإذا كانَت آياتُ الكتابِ تحدّثُنا عنْ هذهِ المقاماتِ، فبهذا نُفسِّرُ هذا الشوقَ الّذي يعيشُهُ المجاهدُ ليصلَ إلى درجةِ الشهادةِ؛ ولذا يصفُ أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام) طالبي الشهادةِ بقولِهِ: «مَنِ الرَائِحُ إِلَى اللهِ كَالظَّمْآنِ يَرِدُ الْمَاءَ، الْجَنَّةُ تَحْتَ أَطْرَافِ الْعَوَالِي، الْيَوْمَ تُبْلَى الْأَخْبَارُ، وَاللَّهِ لَأَنَا أَشْوَقُ إِلَى لِقَائِهِمْ مِنْهُمْ إِلَى دِيَارِهِمْ»[3].
والشهادةُ هيَ تجارةُ الأذكياءِ؛ لأنَّ هؤلاءِ أدركوا أنَّ الموتَ حقٌّ وحتمٌ، فاختاروا أنْ يكونَ ذلكَ في سبيلِ اللهِ، وعنْ أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الْمَوْتَ لَا يَفُوتُهُ الْمُقِيمُ، وَلَا يُعْجِزُهُ الْهَارِبُ، لَيْسَ عَنِ الْمَوْتِ مَحِيصٌ، وَمَنْ لَمْ يَمُتْ يُقْتَلْ، وَإِنَّ أَفْضَلَ الْمَوْتِ الْقَتْلُ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَلْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ مِيتَةٍ عَلَى فِرَاشٍ!»[4].
ومهما يَصِفُ الإنسانُ مقاماتِ هؤلاءِ الشهداءِ، فلنْ يُوفّيَهُم حقَّهُم، يقولُ الإمامُ الخمينيُّ (قُدِّسَ سرُّه): «ما الّذي بوسعِ إنسانٍ قاصرٍ مثلي أنْ يقولَ عنِ الشهداءِ الأعزّاءِ، الّذين قالَ اللهُ تعالى في شأنِهِم تلكَ الكلمةَ العظيمةَ: ﴿أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾[5]؟ وهلْ يمكنُ بالقلمِ والبيانِ والكلامِ التعبيرُ عنِ الالتحاقِ باللهِ واستضافةِ مقامِ الربوبيّةِ للشهداءِ؟ أليسَ هذا مقامَ: ﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾[6]، الّذي رأى الحديثُ الشريفُ مصداقَهُ في سيّدِ الشهداءِ والمظلومينَ؟ وهلْ هذهِ الجنّةُ هيَ الّتي يدخلُها المؤمنونَ أمْ لطيفتُها الإلهيّةُ؟ هلِ الالتحاقُ والارتزاقُ عندَ ربِّ الأربابِ هوَ هذا المعنى البشريُّ، أمْ أنَّهُ رمزٌ إلهيٌّ أسمى وفوقَ تصوّرِ البشرِ الترابيِّ؟»[7].
نرفعُ آياتِ العزاءِ لمقامِ صاحبِ العصرِ والزمانِ (عجّلَ اللهُ تعالى فرجَهُ)، ولوليِّ أمرِ المسلمينَ، وللمجاهدينَ جميعاً، بشهادةِ القائدِ الجهاديِّ الكبيرِ السيّد فؤاد شكر (السيّد محسن)، ونسألُ اللهَ لهُ عُلوَّ الدرجاتِ في مَقعدِ صدقٍ عندَ مليكٍ مُقتدِرٍ.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
[1] سورة محمّد، الآيات 4 - 6.
[2] الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج16، ص327.
[3] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص181، الخطبة 124.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج5، ص54.
[5] سورة آل عمران، الآية 169.
[6] سورة الفجر، الآيتان 29 - 30.
[7] الإمام الخمينيّ (قُدِّسَ سرُّه)، صحيفة الإمام، ج17، ص116.