قالَ تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾[1].
لقدْ كانَ القتالُ فرضاً مسنوناً على رُسلِ اللهِ كافّةً، وعلى مَنْ معَهُم في صفِّهِم يقاتلون. وأعظمُ صفةٍ يذكرُها القرآنُ الكريمُ لهُم هيَ «الرِبِّيُّونَ»، فهُم منسوبونَ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ؛ ولذلكَ امتازوا بأنَّهُم -وعلى الرغمِ منْ شدّةِ المصاعبِ، وما لحِقَ بهِم منْ أذىً وضرر- كانوا على ثباتِهِم وقوّتِهِم وموقفِهِم الصلبِ في نصرةِ الحقِّ والانتصارِ للهِ عزَّ وجلَّ. فمعَ طولِ مدّةِ الحربِ وقسوتِها والمصائبِ النازلةِ والعذاباتِ المختلفةِ، لا ترى أثراً أوْ علامةً للضعفِ أوِ الوهنِ أوِ الاستسلامِ عندَهُم؛ لذا بشّرَ القرآنُ هؤلاءِ الصابرينَ والمُتحمِّلينَ للمشكلاتِ والمصائبِ، ووعدَهُم بأعلى منزلةٍ يمكنُ تصوّرُها، ألا وهيَ الحبُّ الإلهيُّ لهُم، قالَ تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾.
وعنصرُ القوّةِ هذا، يرجعُ إلى نظرةِ هؤلاءِ إلى هذهِ الدنيا، وإلى الشهادةِ في سبيلِ اللهِ، التي هيَ الحياةُ الحقيقيّةُ المنشودةُ، يقولُ الإمامُ الخامنئيُّ (دام ظلُّه): «الموتُ هوَ للجميعِ، ونحنُ إذا توفَّيْنا في سبيلِ اللَّهِ، لمْ نفقدْ شيئاً بحسبِ الموازينِ المادّيّةِ الظاهريّةِ، والموتُ هوَ المصيرُ الذي لا مفرَّ منهُ لكلِّ واحدٍ منّا. وهذا المتاعُ سنفقدُهُ، لكنَّ فقدانَهُ يكونُ على نحوَين: الأوّلُ أنْ نضيّعَهُ، والثاني أنْ نبيعَهُ، فأيُّهما أفضلُ؟ أولئكَ الذينَ لم يُقتَلوا في سبيلِ اللَّهِ قدْ أضاعوا أرواحَهُم، وفي المقابلِ لمْ يحصلوا على شيءٍ، بينما الذينَ قدّموا هذا المتاعَ في سبيلِ اللَّهِ، وبذلوا أرواحَهُم لأجلِ اللَّهِ، همُ الأشخاصُ الذينَ قدْ باعوا واستعاضوا بذلكَ، ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾[2]».
ويذكرُ اللهُ عزَّ وجلَّ صفةَ «الربِّيِّينَ» في سلوكِهِم، وهيَ أنَّهُم يلهجونَ بالدعاءِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾[3].
فهُم يتوسّلون للنصرِ بواحدٍ منْ أهمِّ أسبابِهِ، وهوَ الدعاءُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ بذلكَ، عبرَ أسبابِهِ المترتِّبةِ: مغفرةِ الذنوبِ أوّلاً، ثمَّ تثبيتِ الأقدامِ، فإذا تمَّ ذلكَ، كانَ المترقَّبُ تحقُّقَ وعدِ اللهِ عزَّ وجلَّ لهُم بالنصرِ.
فبالتثبيتِ الإلهيِّ والتسديدِ الربّانيِّ، يستطيعُ المجاهدونَ إكمالَ المسيرةِ للوصولِ إلى الهدفِ المنشودِ، والانتصارِ على الكفرِ والكافرينَ؛ لأنَّهُ بحسبِ تربيتِهِم، لا ملجأَ لهُم إلّا إلى اللهِ، فهوَ القوّةُ العظمى والمُطْلَقةُ، وهوَ كهفُهُمُ الحصينُ، وملاذُهُمُ الآمِنُ، وغياثُهُمْ عندَ الضرورةِ.
ويتجلّى هذا التثبيتُ بأمرَينِ:
أحدُهُما: السكينةُ في قلوبِ المؤمنينَ، قالَ تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ﴾[4].
ثانِيهِما: الأمرُ الإلهيُّ للملائكةِ بتثبيتِ القلوبِ، قالَ تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾[5].
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
[1] سورة آل عمران، الآية 146.
[2] سورة التوبة، الآية 111.
[3] سورة آل عمران، الآية 147.
[4] سورة الفتح، الآية 4.
[5] سورة الأنفال، الآية 12.