وردَ عنْ أميرِ المؤمنينَ عليٍّ (عليه السلام): «لَأَنْسُبَنَّ الْإِسْلَامَ نِسْبَةً لَمْ يَنْسُبْهَا أَحَدٌ قَبْلِي، الْإِسْلَامُ هُوَ التَّسْلِيمُ»[1]، فعظمةُ التسليمِ تتجلّى في كلامِ الإمامِ (عليه السلام) باعتبارِهِ أفضلَ نسبةٍ وتعريفٍ للدينِ الذي ارتضاهُ اللهُ لنا، وجعلَهُ طريقاً إليهِ. فلوْ قيلَ عندئذٍ: إنَّ الطريقَ إلى اللهِ، وإنَّ صراطَ اللهِ المستقيمَ، هوَ التسليمُ، لما كانَ في الكلامِ أيُّ مبالغةٍ؛ فالتسليمُ عنوانُ سيرِنا إلى اللهِ، وعلى أساسِهِ نفهمُ برنامجَ الإسلامِ في بناءِ الإنسانِ وتكميلِهِ.
والتسليمُ إسقاطُ ما في اليدِ، والتخلّي عنِ التدبيرِ الذاتيِّ، وتركُ القيادِ للغيرِ. ويشرحُهُ الإمامُ الخمينيُّ (قُدِّسَ سرُّهُ)، فيقولُ: «الانقيادُ الباطنيُّ والاعتقادُ القلبيُّ في مقابلِ الحقِّ»[2]، ويقولُ (قُدِّسَ سرُّهُ): «إنَّ التسليمَ منَ الخصالِ الحميدةِ للمؤمنينَ، يتوسّلونَ بهِ لطيِّ المنازلِ المعنويّةِ، والحصولِ على المعارفِ الإلهيّةِ. فالذي يتجلّى بالتسليمِ للحقِّ تعالى ولأوليائِهِ، ولا يُناقِشُ لهمْ أمراً، يطوي سيرَهُ الملكوتيَّ بأقدامِهِم؛ ولذلكَ فهوَ يصلُ بسرعةٍ إلى مقصدِهِ»[3].
وأمامَ الإرادةِ الإلهيّةِ، لا يمكنُ للعبدِ إلّا التسليمُ لهُ، ففي الروايةِ أنَّ اللهَ تعالى أوحى إلى داوودَ (عليه السلام): «تُرِيدُ وَأُرِيدُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَا أُرِيدُ، فَإِنْ سَلَّمْتَ لِمَا أُرِيدُ كَفَيْتُكَ مَا تُرِيدُ، وَإِنْ لَمْ تُسَلِّمْ لِمَا أُرِيدُ أَتْعَبْتُكَ فِي مَا تُرِيدُ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا أُرِيدُ»[4].
والتسليمُ يرتبطُ بحالةٍ منْ حالاتِ العبدِ، وهيَ عندما ينزلُ عليهِ قضاءٌ منْ عندِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فعنِ الإمامِ الصادقِ (عليه السلام): «الْعَبْدُ بَيْنَ ثَلَاثٍ: بَيْنَ بَلَاءٍ وَقَضَاءٍ وَنِعْمَةٍ، فَعَلَيْهِ لِلْبَلَاءِ مِنَ اللَّهِ الصَّبْرُ فَرِيضَةً، وَعَلَيْهِ لِلْقَضَاءِ مِنَ اللَّهِ التَّسْلِيمُ فَرِيضَةً، وَعَلَيْهِ لِلنِّعْمَةِ مِنَ اللَّهِ الشُّكْرُ فَرِيضَةً»[5].
يقولُ الإمامُ الخمينيُّ (قُدِّسَ سرُّهُ): «إنَّ روحَ الإنسانِ لا تذوقُ طعمَ الإيمانِ إلّا بالتسليمِ لأحكامِ اللهِ تعالى، بدرجةٍ لا يجدُ معَها أيَّ حرجٍ في نفسِهِ أوْ أذىً في قلبِهِ منَ القضاءِ الإلهيِّ، بلْ يستقبلُهُ برحابةِ صدرٍ واستبشارٍ»[6]، وقدْ رُويَ في الكافي الشريفِ، عنْ أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام)، قالَ: «الْإِيمَانُ لَهُ أَرْكَانٌ أَرْبَعَةٌ: التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ، وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ إِلَى اللَّهِ، وَالرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَالتَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»[7].
ونظامُ العباداتِ في الإسلامِ هوَ الذي يُعطي للإنسانِ روحَ التسليمِ، يقولُ الإمامُ الخمينيُّ (قُدِّسَ سرُّهُ): «إنَّ منْ أسرارِ العباداتِ وفوائدِها المهمّةِ التي تكونُ بقيّةُ الفوائدِ مقدِّمةً لها، أنْ تكونَ مملكةُ البدنِ بجميعِها، ظاهرِها وباطنِها، مُسخَّرةً تحتَ إرادةِ اللهِ، ومُتحرِّكةً بتحريكِ اللهِ تعالى، وتكونَ القوى الملكوتيّةُ والمُلكيّةُ للنفسِ منْ جنودِ اللهِ، وتكونَ كلُّها كملائكةِ اللهِ»[8].
والتسليمُ لا يُعفي العبدَ منَ القيامِ بما عليهِ، ممّا يكونُ مقدوراً، كالدعاءِ، وفي الروايةِ أنَّ الإمامَ الباقرَ (عليه السلام) ماتَ لهُ صبيٌّ، وقدْ كانَ (عليه السلام) في مرضِهِ ذا همٍّ شديدٍ، وبعدَ موتِهِ منبسطَ الوجهِ! وبيّنَ ذلكَ لأصحابِهِ بقولِهِ (عليه السلام): «إِنَّا لَنُحِبُّ أَنْ نُعَافَى فِي مَنْ نُحِبُّ، فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ سَلَّمْنَا فِي مَا أَحَبَّ»[9].
وأعظمُ ما يتجلّى بهِ التسليمُ، أنْ يُردِّدَ المؤمنُ ما علّمْنا إيّاهُ الإمامُ الصادقُ (عليه السلام): «إِذَا قَالَ الْعَبْدُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمَلَائِكَةِ: اسْتَسْلَمَ عَبْدِي، اقْضُوا حَاجَتَهُ»[10].
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص491، الحكمة 125.
[2] الإمام الخمينيّ، جنود العقل والجهل، ص357.
[3] المصدر نفسه، ص358.
[4] الشهيد الثاني، مُسكّن الفؤاد عند فقد الأحبّة والأولاد، ص86.
[5] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج79، ص129.
[6] الإمام الخمينيّ، جنود العقل والجهل، ص359.
[7] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص47.
[8] الإمام الخمينيّ، معراج السالكين، ص45.
[9] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج3، ص226.
[10] البرقيّ، المحاسن، ج1، ص42.