أولى الإمامُ الحسنُ العسكريُّ (عليه السلام) عنايةً خاصّةً ببناءِ المجتمعِ الإسلاميِّ على أساسِ الأخوّةِ الإيمانيّةِ، ورعايةِ الروابطِ بينَ المؤمنينَ، فجعلَ العلاقةَ الصحيحةَ بينهُم مظهراً من مظاهرِ صدقِ الإيمانِ، وميزاناً للتقوى والقربِ منَ اللهِ تعالى.
ومن أبرزِ معالمِ توجيهاتِهِ (عليه السلام):
1. قيمةُ الأخوّةِ
أكّد الإمامُ (عليه السلام) أنّ الإيمانَ لا يكتملُ من دونِ نفعِ الإخوانِ وخدمتِهِم، فجعلَها أعظمَ القِيمِ بعدَ الإيمانِ باللهِ تعالى، فقالَ (عليه السلام): «خصلتانِ ليسَ فوقَهُما شيءٌ: الإيمانُ باللهِ، ونفعُ الإخوانِ»[1]؛ فالإيمانُ ليسَ مجرّدَ اعتقادٍ قلبيٍّ أو عبادةٍ فرديّةٍ، بل هوَ التزامٌ عمليٌّ تجاهَ الآخرينَ، وعطاءٌ يترجَمُ في خدمةِ المؤمنينَ.
ويضيفُ (عليه السلام) محدِّداً معيارَ التفاضلِ بينَ الناسِ: «أعرفُ الناسِ بحقوقِ إخوانِهِ وأشدُّهُم قضاءً لها، أعظمُهُم عندَ اللهِ شأناً»[2]؛ فالمكانةُ عندَ اللهِ لا تُقاسُ بكثرةِ الشعائرِ وحدَها، بل تُقاسُ بمدى معرفةِ الإنسانِ بحقوقِ الآخرينَ وسعيِهِ في قضائِها.
2. التواضعُ أساسُ الارتباطِ الصادقِ
ومن أبرزِ ما دعا إليهِ الإمامُ (عليه السلام) أن يقومَ التعاملُ بينَ المؤمنينَ على التواضعِ، لا على الكبرِ أوِ التعالي، يقولُ (عليه السلام): «مَن تواضعَ في الدنيا لإخوانِهِ، فهوَ عندَ اللهِ منَ الصدّيقينَ، ومن شيعةِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ (عليه السلام) حقّاً»[3]؛ فالشيعيُّ الحقيقيُّ هوَ الذي يخدمُ إخوانَهُ بروحِ التواضعِ، ويبتعدُ عنِ الأَثَرةِ والأنانيّةِ.
3. أدبُ النصيحةِ والإصلاحِ
وحتّى يظلَّ المجتمعُ متماسكاً، وضعَ الإمامُ (عليه السلام) قاعدةً راسخةً في أسلوبِ النصيحةِ، تقومُ على السترِ والإصلاحِ، بعيداً عن الإيذاءِ والتشهيرِ، فقالَ (عليه السلام): «مَن وعظَ أخاهُ سرّاً فقد زانَهُ، ومَن وعظَهُ علانيةً فقد شانَهُ»[4]؛ فالنصيحةُ إذا قُدِّمَت في الخفاءِ كانَت تزييناً وإصلاحاً، وإذا أُعلنَت صارَت فضيحةً وإساءةً. وهذا أدبٌ اجتماعيٌّ بليغٌ، يحفظُ كرامةَ الإنسانِ، ويُبقي على روابطِ المحبّةِ داخلَ المجتمعِ.
4. الوفاءُ والتغاضي عنِ الزلّاتِ
كما أكّدَ الإمامُ (عليه السلام) أنَّ من كمالِ الأخوّةِ أن يتجاوزَ المؤمنُ عن هفواتِ إخوانِهِ، ويُبرزَ محاسنَهُم بدلَ أن يذكُرَ سيّئاتِهِم، قالَ (عليه السلام): «خيرُ إخوانِكَ مَن نسيَ ذنبَكَ وذكرَ إحسانَكَ إليهِ»[5]؛ فالمؤمنُ الصادقُ لا يحبسُ أخاهُ في دائرةِ الخطإِ والزلّةِ، بل يُحيي العلاقةَ بذكرِ المعروفِ والإحسانِ.
بهذهِ التوجيهاتِ التربويّةِ، رسمَ الإمامُ الحسنُ العسكريُّ (عليه السلام) صورةَ المجتمعِ النموذجيِّ الذي يريدُهُ الإسلامُ: مجتمعٌ متكافلٌ متماسكٌ، يقومُ على نفعِ الإخوانِ، وعلى التواضعِ المتبادلِ، وعلى النصيحةِ المخلصةِ البعيدةِ عنِ التشهيرِ، وعلى الوفاءِ والتغاضي عنِ الزلّاتِ. ومثلُ هذا المجتمعِ هوَ الذي يملكُ القوّةَ الداخليّةَ لمواجهةِ التحدّياتِ، ويحملُ رسالةَ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) في نشرِ العدلِ والرحمةِ بينَ الناسِ.
ختاماً، نرفعُ آياتِ العزاءِ إلى مولانا صاحبِ العصرِ والزمانِ (عجّلَ اللهُ فرجَهُ)، وإلى وليِّ أمرِ المسلمينَ، وإلى المجاهدينَ جميعاً، بذكرى شهادةِ الإمامِ الحسنِ العسكريِّ (عليه السلام)، في الثامنِ من ربيعٍ الأوّلِ سنة 260 للهجرةِ.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
[1] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ص486.
[2] الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، ج2، ص267.
[3] المصدر نفسه.
[4] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ص489.
[5] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج75، ص379.