في هذه المرحلة بدأ التعارض بين حاكمية الحق العلوي وحاكمية الباطل الأموي. واستمر هذا التعارض في أيام خلافة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وفي مرحلة قصيرة من خلافة الإمام الحسن عليه السلام، حتى انتهت ولأسباب متعددة لمصلحة الأمويين في العام 41هـ، وأجبر الإمام الحسن عليه السلام على الصلح. يجب الإشارة إلى أن محاولات بني أمية منذ العام 8 هجري قد وصلت إلى أهدافها في العام 41 هجري فتسلطوا على الحكم وأجبر الإمام الحسن عليه السلام على قبول الصلح. وقد أشار الإمام عليه السلام مراراً إلى أسباب صلحه مع معاوية نشير إلى واحد منها:
1 - ينقل الشيخ الطوسي بسند معتبر عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "لما أجمع الحسن بن علي عليه السلام على صلح معاوية خرج حتى لقيه، فلما اجتمعا قام معاوية خطيباً، فصعد المنبر وأمر الحسن عليه السلام أن يقوم أسفل منه بدرجة ثم قال: أيها الناس هذا الحسن بن علي بن فاطمة أرانا للخلافة أهلاً، ولم ير نفسه لها أهلاً، وقد أتانا ليبايع طوعاً.
ثم قال: قم يا حسن؟ فقام الحسن عليه السلام فخطب فقال:... أقول معشر الخلائق فاسمعوا، ولكم أفئدة وأسماع فعوا.. أيها الناس إني لو قمت حولاً فحولاً أذكر الذي أعطانا الله تعالى لم أحصه، وأنا ابن النبي النذير البشير، السراج المنير، الذي جعله الله رحمة للعالمين، وأبي علي، ولي المؤمنين، وشبيه هارون، وأن معاوية بن صخر زعم أني رأيته للخلافة أهلاً، ولم أر نفسي لها أهلاً، فكذب معاوية، وايم الله لأنا أولى الناس بالناس في كتاب الله وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، غير أنا لم نزل أهل البيت مخيفين مظلومين مضطهدين منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالله بيننا وبين من ظلمنا حقنا، ونزل على رقابنا، وحمل الناس على أكتافنا ومنعنا سهمنا في كتاب الله(من الفيء) والغنائم، ومنع أمنا فاطمة إرثها من أبيها... وقد خذلتني الأمة وبايعتك يا ابن حرب، ولو وجدت عليك أعواناً يخلصون ما بايعتك، وقد جعل الله عزَّ وجلَّ هارون في سعة حين استضعفه قومه وعادوه، كذلك أنا وأبي في سعة حين تركتنا الأمة وبايعت غيرنا، ولم نجد عليهم أعواناً، وإنما هي السنن والأمثال.. تتبع بعضها بعضاً.
فقال معاوية: والله ما نزل الحسن حتى أظلمت عليّ الأرض، وهممت أن أبطش به، ثم علمت أن الإغضاء أقرب إلى العافية1.
أشار الإمام عليه السلام إلى نقاط هامة توضح أن الكثير من الحوادث الحالية تعود جذورها إلى المراحل الماضية، حيث لم يكن ذلك سوى الانحراف عن حاكمية الدين والذي أدى إلى الانحرافات اللاحقة وأدى فيما أدى إليه إلى مظلومية أهل البيت(عليهم السلام). ثم أشار الإمام إلى عوامل وأسباب أخرى تقع في الإطار نفسه من جملتها عدم تبعية الناس، الغدر والخيانة، عدم وجود المخلصين، عداء الناس للإمام.... وهذا يعني أن الصلح قد تم في هكذا أجواء.
في النهاية أعلن معاوية الانتصار بعد البيعة وعقد الصلح. ينقل الفضيل غلام محمد بن راشد عن الإمام الصادق عليه السلام: "إن معاوية كتب إلى الحسن بن علي صلوات الله عليهما أن: أقدم أنت والحسين وأصحاب علي فخرج معهم قيس بن سعد ابن عبادة الأنصاري فقدموا الشام، فأذن لهم معاوية، وأعد لهم الخطباء فقال: يا حسن قم فبايع فقام وبايع، ثم قال للحسين عليه السلام قم فبايع، فقام وبايع، ثم قال: يا قيس قم فبايع فالتفت إلى الحسين عليه السلام ينظر ما يأمره، فقال: يا قيس إنه إمامي يعني الحسن عليه السلام "2.
بعد عدة أيام من إمضاء الصلح، ودع الإمام الحسن عليه السلام الكوفة وتوجه نحو المدينة3.
وهكذا خضع مصير المسلمين لمعاوية فشكل حكومة أموية بالكامل، وبما أن حكومته غير دينية فلم تحافظ على بنود الصلح بل عملت على خلافها، وهذا يعني أن جبهة الحق والباطل ما زالت مشتعلة على الرغم من الظاهر الذي كان يدل على الصلح.
يتحدث الشهيد مطهري حول انفصال بني أمية عن الإسلام ومخالفتهم لجبهة الدين الحق فقال: "وضع الأمويين محاربة الإسلام والقرآن على رأس الأمور وكان في الطليعة أبو سفيان.. وذلك لسببين: الأول هو التنافس العرقي الذي تراكم على مدى أجيال ثلاث. الثاني هو التباين الواضح بين قوانين الإسلام ونظام الحياة الاجتماعية الذي سيطر على رؤساء قريش وبالأخص الأمويين... يضاف إلى ذلك طينة ومزاج هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يفكرون بالمنفعة والمصلحة المادية، وهنا لا تأثير للتعاليم الربانية والإلهية وهذا لا علاقة له بذكائهم أو عدمه. مما لا شك فيه فإن الذي تؤثر فيه التعاليم الإلهية هو الذي يمتلك في وجوده نفساً ذو شرف وعلو. أما بني أمية الذين لم يتمتعوا بهكذا شرف، فقد ظهر الأمر في حالات متعددة وعند قولهم: "لقد صار ملك ابن أخيك عظيماً.." "بالله غلبتك يا أبا سفيان" و" تلقفونها تلقف الكرة"4.
وقد سجل التاريخ ظهور التعارض بين الجبهتين بشكل واضح من جملة ذلك المؤامرات التي حاكها معاوية لقتل الإمام عليه السلام، بينما لجأ الإمام عليه السلام إلى الوسائل المشروعة لإضعاف حكومة معاوية. مع العلم أن معاوية عمل على إخفاء هذا التعارض من خلال إظهار عدم وجوده في الخارج، ومن هنا عمل معاوية جاهداً لإخفاء التعارض في الخارج، وعمل الإمام عليه السلام في ظل هذا الصلح على تحسين أوضاع أتباعه من حيث نشر الوعي والتبليغ. وكان يستغل الغرض لتوضيح التعارض الداخلي بين الجبهتين، وهنا نذكر النموذج التالي: "روي أن معاوية كتب إلى مروان وهو عامله على المدينة أن يخطب على يزيد بنت عبد الله بن جعفر على حكم أبيها في الصداق وقضاء دينه بالغاً ما بلغ، وعلى صلح الحيين: بني هاشم وبني أمية. فبعث مروان إلى عبد الله بن جعفر يخطب إليه، فأتى مروان الحسن خاطباً فقال الحسن عليه السلام: إجمع من أردت! فأرسل مروان فجمع الحيين من بني هاشم وبني أمية فتكلم مروان، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن أخطب زينب بنت عبد الله بن جعفر على يزيد بن معاوية على حكم أبيها في الصداق وقضاء دينه بالغاً ما بلغ، وعلى صلح الحيين: بني هاشم وأمية، ويزيد بن معاوية كفو من لا كفو له، ولعمري لمن يغبطكم بيزيد أكثر ممن يغبط يزيد بكم، ويزيد ممن يستسقي الغمام بوجهه ثم سكت.
فتكلم الحسن عليه السلام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما ما ذكرت من حكم أبيها في الصداق، فإنا لم نكن لنرغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أهله وبناته، وأما قضاء دين أبيها فمتى قضت نساؤنا ديون آبائهن؟ وأما صلح الحيين فإنّا عاديناكم لله وفي الله فلا نصالحكم للدنيا. وأما قولك من يغبطنا بيزيد أكثر ممن يغبطه بنا، فإن كانت الخلافة فاقت النبوة فنحن المغبوطون به، وإن كانت النبوة فاقت الخلافة، فهو المغبوط بنا.
وأما قولك أن الغمام يستسقى بوجه يزيد، فإن ذلك لم يكن إلا لآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد رأينا أن نزوجها من ابن عمها القاسم بن محمد بن جعفر وقد زوجتها منه"5.
ونلاحظ هنا أن الإمام عليه السلام تحدث عن العداء بين الفريقين وذلك في مناسبة عائلية وأفشى - محاولات معاوية التقليل من أهمية النزاع والخلاف بين الفريقين، وهذا يعني أن النزاع ما زال قائماً على رغم الصلح الظاهري والدليل على ذلك أن هذا النزاع قد اشتعل بسرعة أيام الإمام الحسين عليه السلام، فالحق والباطل لا يجتمعان على الإطلاق، وما صلح الإمام الحسن عليه السلام إلا حركة تكتيكية لبقاء الأقلية الشيعية.
1- أمالي الشيخ الطوسي، ص561.
2- جلاء العيون، العلامة المجلسي، ص235.
3- الكامل في التاريخ، ج3، ص407.
4- الملحمة الحسينية، ج3، ص19 ـ 20.
5- بحار الأنوار، ج4، ص119 ـ 120.