بسم الله الرحمن الرحيم
شهادة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام_3 / جمادى الثانية / السنة 11 هـ
اختلف المؤرخون من العامة والخاصة في المدة التي عاشتها السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام بعد أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بعد اتفاقهم على أن سنة وفاتها عليها السلام كانت في السنة الحادية عشرة من الهجرة.
وأقوالهم في ذلك خمسة:
القول الأول: أنها بقيت بعد أبيها (30) أو (35 يوماً)، كما اختاره اليعقوبي في (تاريخه)، وجماعة من مؤرخي العامة، وهذا أقل ما قيل في مدة بقائها بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم1.
القول الثاني: أنها عاشت بعده صلى الله عليه وآله وسلم أربعين أو خمسة وأربعين يوماً، كما اختاره القرطبي في (تفسيره)2، ونقل عن جماعة.
القول الثالث: أنها عاشت بعده صلى الله عليه وآله وسلم (75 يوماً)، وهذا هو الأشهر بين المؤرخين، ويتوافق مع (13 جمادى الأولى) تقريباً3.
القول الرابع: أنها عاشت بعده صلى الله عليه وآله وسلم (95 يوماً)، ويتوافق في (3 جمادى الآخرة)، وقد رواه الطبري في كتابه (دلائل الإمامة) بإسناده، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "قُبضت فاطمة عليها السلام في جمادى الآخرة يوم الثلاثاء لثلاث خلون منه، سنة إحدى عشرة من الهجرة"4.
القول الخامس: عاشت عليها السلام بعد وفاة أبيها ستة أشهر، وهذا هو المشهور بين مؤرخي أبناء العامة5.
وهناك أقوال أخرى لا يُعبأ بها بين جمهور المؤرخين.
وهنا ينبغي أن نذكر جوانب عن حياة فاطمة الزهراء عليها السلام:
الجانب الأول: الزهراء عليها السلام مبلّغة لرسالة السماء:
كانت الزهراء عليها السلام مواكبة لأبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت تتصدى لتعليم النساء في المدينة أحكام دينهنّ، حتى أن النساء كنّ يأتين بيت فاطمة في كثير من الأحيان طلباً للعلم والمعرفة، فقد روي عن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام أنه قال: حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء عليها السلام، فقالت: إن لي والدة ضعيفة، وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليكِ أسألك، فأجابتها فاطمةعليها السلام عن ذلك، فثنّت فأجابت، ثم ثلّثت فأجابت.. إلى أن عشرت، فأجابت، ثم خجلت المرأة من الكثرة، فقالت لها: لا أشقّ عليك يا ابنة رسول الله، فقالت فاطمةعليها السلام: هاتي وسلي عمّا بدا لك، أرأيت من اكترى يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل، وكِراه مائة ألف دينار يثقل عليه؟ فقالت: لا، قالت: اكتريت أنا بكل مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً فأحرى أن لا يثقل عليّ، سمعت أبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إن علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم، وجدهم في إرشاد عباد الله، حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلة من نور"6.
وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعتمد عليها في تبليغ الإسلام، وتعليم القرآن لنساء أهل المدينة، والرواية السابقة توضح بشكل صريح أن نساء المدينة كنّ يأتينها لتعلّم أحكام الدين، وهذا يكشف عن أن الزهراء عليها السلام كانت محطاً للتعليم والتثقيف وتبليغ الرسالة.
وأيضاً بعد وفاة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم كانت الزهراء مبلّغةً للوصاية والإمامة لأمير المؤمنين عليه السلام، وكانت تواصل دفاعها عنه بشتى طرق الدفاع، وبمختلف أساليبه، فكانت تخرج مع علي عليه السلام إلى أبواب المهاجرين والأنصار، لتذكرهم حقوق الإمام عليه السلام على الأمة، وتدعوهم إلى نصرته بعد أن ابتزوا حقه وغصبوه.
ولقد كان هذا الموقف منها دفاعاً واضحاً عن الإمامة، وتبليغاً عظيماً في سبيل هذا الحق الإلهي العظيم.
الجانب الثاني: جهاد الزهراء عليها السلام:
كانت الزهراء عليها السلام في دائرة الجهاد التي خطّها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث أنها قد عاشت محن الجهاد بتمام تفصيلاته، فلقد قاست مرارة الحصار في شعب أبي طالب مع أبيها وأمها وسائر بني هاشم، ولم يمض من عمرها غير سنتين، كما أنها عاشت آلام أبيها والمحن التي عصفت به، والأذى الذي كان يلحقه القوم به، فقد روى عبد الله بن مسعود: أنه بينما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحابه جلوس، وقد نحرت بالأمس جزور، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا بني فلان فيأخذ منه ويضعه على كتفي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه، فلما سجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضعه بين كتفيه، قال: فاستضحك القوم، وجعل بعضهم يميل على بعض، فلما علمت الزهراء بذلك جاءت إليهم وهي طفلة صغيرة، فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تلومهم وتعنّفهم بالقول7. كما أنها علمت ذات يوم بأن قريشاً تكيد لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأعلمته بذلك8.
واستمرت عليها السلام تواكب جهاد أبيها مع أمها، إلى أن اختار الله لخديجة دار المقامة عنده، ففقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفقدها الناصر والمعين، والشفيق الحنون، فلقد كانت نعم المواسيّ والمصبّر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وشكّل فقدها فراغاً كبيراً في حياته صلى الله عليه وآله وسلم حتى أطلق على عام وفاتها الذي ارتحل فيه أيضاً عمه أبو طالب عليه السلام (عام الحزن)، كما أن الزهراء فقدت على صغر سنها الأم الحنون والحجر الدافئ، إلا أنها تناست أحزانها، ولم تدع المصيبة الجليلة تأخذ منها ومن عزيمتها، وتحطّ من قدرتها، فأخذت على عاتقها تسنّم مكانة أمها بفيض الحنان المتدفق على أبيها، فكانت بمجرد أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى البيت تفرغ عليه حنانها، وتمارس دور أمها في تصبير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومواساته، حتى فاقت بحنانها حنان أمها، فأسماها النبي صلى الله عليه وآله وسلم "فاطمة أم أبيها"9.
وهذا الوسام يعكس بجلاء مدى الحنان الكبير، والمؤازرة العظيمة، والموقف الجليل الذي كانت تقوم به تجاه أبيها صلى الله عليه وآله وسلم.
كما أنها عليها السلام هاجرت في سبيل الله برفقة علي عليه السلام بركب الفواطم، وعايشت سائر غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى أنها خرجت في غزوة أحد إلى موقع المعركة، ورأت أباها بتلك الحالة المؤلمة، فأخذت تغسل عن وجهه الدماء المتخثّرة، وهي تقول: اشتدّ غضب الله على من أدمى وجه رسول الله، فكانت تغسل الدماء، وعلي يصب الماء من المجن، فلما رأت أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة، عمدت إلى قطعة حصيرة فأحرقتها، وجعلت رمادها ضماداً على جبهته، وألزمته الجرح فاستمسك الدم.
وهكذا كانت تأتي أباها بكسيرات من الخبز في معركة الخندق، مما يكشف بوضوح أنها عليها السلام كانت تعايش محن الرسالة، وهمّ الجهاد وتشارك بما يمكنها فيه المشاركة10.
الجانب الثالث: عبادة فاطمةعليها السلام:
لقد عرفت الزهراء عليها السلام بعابدة البيت النبوي، حتى قال الحسن البصري: "ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة بنت رسول الله، وكانت تقوم بالأسحار حتى تورّمت قدماها"11.
وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "... وأما ابنتي فاطمة، فهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، إنها لتقوم في محرابها فيسلّم عليها سبعون ألف ملك من الملائكة المقربين، وينادونها بما نادت به الملائكة مريم، فيقولون: يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين"12..
وورد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بعث سلماناً إلى فاطمةعليها السلام، فوقف بالباب وقفة حتى سمع فاطمة تقرأ القرآن من جوا، وتدور الرحى من برا، ما عندها أنيس، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: "يا سلمان، ابنتي فاطمة ملأ الله قلبها، وجوارحها إيماناً إلى مشاشها، تفرّغت لطاعة ربها، فبعث الله ملكاً اسمه زوقابيل، فأدار الرحى، وكفاها الله مؤونة الدنيا، مع مؤونة الآخرة"13.
وورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "متى قامت في محرابها بين يدي ربها (جل جلاله) زهر نورها لملائكة السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول الله (عز وجل) لملائكته: يا ملائكتي أنظروا إلى أمتي فاطمة، سيدة إمائي قائمة بين يدي، ترتعد فرائصها من خيفتي، وقد أقبلت بقلبها على عبادتي، أشهدكم أني قد أمنت شيعتها من النار.."14.
وجاء في كتاب (عدة الداعي): أن فاطمة كانت تنهج في الصلاة من خيفة الله15، ومعنى النهج تتابع النفس من شدة الخوف والخشوع.
ولشدة ما تعلقت الزهراء عليها السلام بالعبادة والأذكار وقراءة القرآن تنازلت عن الخادم الذي هي بأمسّ الحاجة إليه لأجل مداومة ذكر الله تعالى وتسبيحه وتقديسه، حيث روي - بسند معتبر - أن فاطمةعليها السلام قد استقت بالقربة حتى أثّر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها16، وكسحت البيت حتى اغبرّت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد، وكان قد أهدي إلى رسول الله رقيق، فأتته فاطمة عليها السلام فسألته أن يعطيها خادماً يعينها في أعمالها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا فاطمة أعطيك ما هو خير لك من خادم، ومن الدنيا بما فيها: تكبّرين الله بعد كل صلاة أربعاً وثلاثين تكبيرة، وتحمدين الله ثلاثاً وثلاثين تحميدة، وتسبحين الله ثلاثاً وثلاثين تسبيحة، ثم تختمين ذلك بلا إله إلا الله، وذلك خير لك من الذي أردت ومن الدنيا وما فيها"17.
فقبلت فاطمة عليها السلام وتنازلت عن طلبها، على الرغم من أن الخادم في زمانها كان من ضروريات الحياة، وكان عند أغلب الناس خدم، فليس في طلب فاطمة هذا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يدلّ على طلب الترف والترفع، بل ما هو ملائم لطبيعة الحياة آنذاك، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرفض طلبها، ولكنه خيّرها بين الخادم وهذا الذكر، فاختارت التسبيح إيثاراً لرضا ربها على رضا نفسها، ورغبة في الارتباط التام والعميق بالرب الرؤوف الرحيم، فكانت (صلوات الله عليها) ملازمة لهذا التسبيح طيلة حياتها، في أدبار الصلاة، وإذا أخذت مضجعها، وكانت قد عملت سبحتها من خيط صوف مفتّل، معقود عليه عدد التسحبيات، فكانت تديرها بيدها؟، وتكبّر وتسبّح، ولما قتل حمزة بن عبد المطلب عليه السلام في أحد، استعملت تربته، وعملت السبحة منه، فاستعملها الناس18.
وقد أصبح هذا التسبيح الذي عرف بــ(تسبيح الزهراء عليها السلام ) من أفضل تعقيبات الصلاة، فقد ورد الحث البليغ والكثير عن الأئمة(عليهم السلام) بملازمته، والتعقيب به، فعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال لأبي هارون: "يا أبا هارون، إنّا نأمر صبياننا بتسبيح فاطمة عليها السلام كما نأمرهم بالصلاة، فالزمه، فإنه لم يلزمه عبد فشقى"19.
وهكذا غدا هذا التسبيح - وبفضل فاطمة عليها السلام - شعار كل مؤمن، وكل عابد وناسك، حتى صار سبحة هذا الذكر شعاراً يتزين بحمله المؤمنون.
فضل تسبيح الزهراء عليها السلام والتعقيب به:
قد ورد الكثير من الأخبار التي تعكس فضلاً كبيراً، وأجراً جزيلاً للتعقيب بتسبيح الزهراء عليها السلام ننقل بعضها تيمناً:
عن عبد الله بن سنان قال، قال أبو عبد الله عليه السلام: "من سبح تسبيح فاطمة عليها السلام قبل أن يثني رجله من صلاة الفريضة غفر الله له، ويبدأ بالتكبير".
وعن زرارة عن أبي عبد الله، قال: "تسبيح الزهراء عليها السلام من الذكر الكثير الذي قال الله (عز وجل): ﴿اذْكُرُواْ اللهَ ذِكْراً كَثِيراً﴾ "20.
وعن محمد بن مسلم قال، قال أبو جعفر عليه السلام: "من سبّح تسبيح فاطمة عليها السلام ثم استغفر غفر له، وهي مائة باللسان، وألف في الميزان، وتطرد الشيطان وترضي الرحمن".
وعن أبي جعفر عليه السلام قال: "ما عبد الله بشيء من التحميد أفضل من تسبيح فاطمة عليها السلام، ولو كان شيء أفضل منه لنحله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة عليها السلام ".
وعن أبي خالد القماط، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "تسبيح فاطمة في كل يوم في دبر كل صلاة أحب إليّ من صلاة ألف ركعة في كل يوم"21.
1- تاريخ اليعقوبي 1: 67.
2- تفسير القرطبي 14: 214.
3- مجمع الزوائد 9: 166.
4- دلائل الإمامة للإمام الطبري: 167.
5- المستدرك على الصحيحين 3: 176 حديث 4761.
6- مستدرك الوسائل 17: 317.
7- سيرة ابن إسحاق: 192، ودلائل النبوة للبيهقي 2: 44. عن ابن إسحاق أيضاً.
8- مناقب آل أبي طالب 2: 71، والمستدرك على الصحيحين 2: 157.
9- بحار الأنوار 22: 152 ح4.
10- فاطمة الزهراء أم أبيها: 35.
11- المستطرف في كل فن مستظرف 1: 20، ومناقب آل أبي طالب 3: 341.
12- آمالي الصدوق: 437، وبحار الأنوار 43: 24.
13- مناقب آل أبي طالب 3: 338.
14- البحار 43: 172.
15- مسند فاطمة: 14، وبحار الأنوار 67: 40.
16- مجلت يداها: ثخن جلدها.
17- بحار الأنوار 585: 336 حديث: 25.
18- بحار الأنوار 85: 333 حديث: 16.
19- وسائل الشيعة 6: أبواب التعقيب: باب 7/1، وباب 8/1، وباب 9/1 - 2.
20- سورة الأحزاب: الآية 41.
21- وسائل الشيعة 6: أبواب التعقيب: باب 7/1، وباب 8/1، وباب 9/1 - 2.