باسمه تعالى
تلقت قريش في بدر ضربة هائلة لم تكن تتوقعها، وكان من المفترض: أن تعي أن ما حصل لم يكن ليحصل لو لم تكن ثمة رعاية إلهية لهذا الدين وأهله.. وأن يدفعها ذلك إلى التخلي عن عنادها، وجحودها، وأن تعترف بما تستيقنه في قرارة نفسها.
ولكن ذلك لم يحصل، بل سول لها الشيطان أنها سوف تنتصر، وجمعت جموعها، واتصلت باليهود والمنافقين، واتصلوا بها، وجاءت إلى حرب أحد تقود الألوف من المقاتلين، فخورة بعدتها وعددها، وبلغ النبي "صلى الله عليه وآله" ذلك، فخرج بالمسلمين لملاقاتها، وكانت المعركة عند جبل أحد، وقد كان لعلي "عليه السلام" في هذه الحرب القدح المعلى...
علي (عليه السلام) يطيع ولا يقترح:
وقد آثر النبي "صلى الله عليه وآله" في حرب أُحد أن يشاور أصحابه في أمر الحرب، لأنهم هم المكلفون بمواجهة الأعداء. وجهاد أهل البغي والباطل، وعلى صحة نواياهم يتوقف صحة جهادهم، ونيلهم لمقام الكرامة والشهادة، حين يتعرض أي واحد منهم لها..
وبدون إخلاص نواياهم لله تعالى، سيكونون مجرد مقاتلين لا مجاهدين، وسيكونون قتلى أو ضحايا لا شهداء، ومن منطلق الرفق بهم والمحبة لهم، وتهيئتهم لنيل مقام الطاعة والانقياد كان "صلى الله عليه وآله" يطرح عليهم قضية الحرب والسلم، ويطلب منهم أن يُظهروا ما أضمروا، وأن يعلنوا ما أبطنوا..
وكنا نجد فيهم المخذل للناس، والمبهور بقوة العدو، المشير بتحاشي الدخول مع الأعداء في حرب، ومن يفضل ذل الاستسلام والخضوع والخنوع على الطاعة لله، ونيل مقام الكرامة والزلفى..
غير أن ما هو جدير بالملاحظة هنا: أننا لا نجد لعلي "عليه السلام" في هذه المواقع صوتاً أو مبادرة.. بل لا نجد أي حضور في أي من مواقع الاعتراض والاقتراح على رسول الله "صلى الله عليه وآله".. وكأنه غير موجود إلا في موقع التسليم له "صلى الله عليه وآله"، والرضا بما يرضاه، والطاعة لما يأمر، والتصديق لما يقول..
اللواء مع علي (عليه السلام) في أحد:
لقد كان لواء أو راية رسول الله "صلى الله عليه وآله" في حروبه مع علي "عليه السلام"، في بدر، و أحد، وفي المشاهد كلها. ولنقف عند بعض النصوص التي تتعرض لذلك:
قالوا: إن رسول الله "صلى الله عليه وآله" أعطى الراية (أو اللواء) إلى أمير المؤمنين "عليه السلام" في أحد، كما نص عليه البعض1. ويقول آخرون: إن لواء المهاجرين كان مع علي2. وقيل: مع مصعب بن عمير.3
ويقال: إنه اللواء الأعظم.4
وقيل: إنه "صلى الله عليه وآله" سأل عمن يحمل لواء المشركين، فقيل له: طلحة بن أبي طلحة، فأخذ اللواء من علي ودفعه إلى مصعب بن عمير، لأنه من بني عبد الدار، وهم أصحاب اللواء في الجاهلية.5
وكان لواء الأوس مع أسيد بن حضير، ولواء الخزرج مع حباب بن المنذر.
وقيل: مع سعد بن عبادة.
اللواء مع علي (عليه السلام) فقط:
ونقول: إنه لا صحة لما ادعي من أن اللواء كان مع مصعب بن عمير، أو أنه أخذه من علي، وأعطاه لمصعب.
والصحيح هو: أنه كان مع علي "عليه السلام" في أحد، وبدر، وفي كل مشهد.
ويدل على ذلك:
1 ـ ما تقدم في غزوة بدر: من أن علياً "عليه السلام" كان صاحب لواء رسول الله "صلى الله عليه وآله" في بدر، وفي كل مشهد.
2 ـ عن ابن عباس، قال: لعلي بن أبي طالب "عليه السلام" أربع ما هن لأحد: هو أول عربي وعجمي صلى مع رسول الله "صلى الله عليه وآله". وهو صاحب لوائه في كل زحف، وهو الذي ثبت معه يوم المهراس؛ وفر الناس، وهو الذي أدخله قبره.6
3 ـ عن ابن عباس: كان علي أخذ راية رسول الله يوم بدر. قال الحاكم: وفي المشاهد كلها.7
4 ـ وعن مالك بن دينار: سألت سعيد بن جبير وإخوانه من القراء: من كان حامل راية رسول الله "صلى الله عليه وآله"؟! قالوا: كان حاملها علي "عليه السلام".8 وفي نص آخر: أنه لما سأل مالك سعيد بن جبير عن ذلك غضب سعيد، فشكاه مالك إلى إخوانه من القراء، فعرفوه: أنه خائف من الحجاج. فعاد وسأله، فقال: كان حاملها علي "عليه السلام". هكذا سمعت من عبد الله بن عباس.9وفي نص آخر عن مالك بن دينار قال: قلت لسعيد بن جبير: من كان صاحب راية رسول الله "صلى الله عليه وآله"؟! قال: إنك لرخو اللبب. فقال لي معبد الجهني: أنا أخبرك: كان يحملها في المسير ابن ميسرة العبسي، فإذا كان القتال؛ أخذها علي بن أبي طالب "عليه السلام".10
5 ـ عن جابر، قالوا: يا رسول الله، من يحمل رايتك يوم القيامة؟! قال: من عسى أن يحملها يوم القيامة، إلا من كان يحملها في الدنيا، علي بن أبي طالب؟! وفي نص آخر: عبّر باللواء بدل الراية.11
6 ـ ومر سعد بن أبي وقاص برجل يشتم علياً "عليه السلام"، والناس حوله في المدينة، فوقف عليه، وقال: يا هذا، على ما تشتم علي بن أبي طالب؟!
ألم يكن أول من أسلم؟!
ألم يكن أول من صلى مع رسول الله "صلى الله عليه وآله"؟!
ألم يكن أزهد الناس؟!
ألم يكن أعلم الناس؟!
وذكر حتى قال: ألم يكن صاحب راية رسول الله "صلى الله عليه وآله "في غزواته؟12 وظاهر كلامه: أن ذلك كان من مختصاته صلوات الله وسلامه عليه.
7 ـ عن مقسم: أن راية النبي "صلى الله عليه وآله" كانت تكون مع علي بن أبي طالب، وراية الأنصار مع سعد بن عبادة، وكان إذا استعر القتال كان النبي "صلى الله عليه وآله" مما يكون تحت راية الأنصار.13
8 ـ عن عامر: أن راية النبي "صلى الله عليه وآله" كانت تكون مع علي بن أبي طالب، وكانت في الأنصار حيثما تولوا.14
وقد يقال: إن هذين النصين الأخيرين لا يدلان على أن الراية كانت دائماً مع علي "عليه السلام" بصورة أكيدة وصريحة، وإن كان قد يدعى: إن ظاهرهما هو ذلك.
9 ـ عن ثعلبة بن أبي مالك، قال: كان سعد بن عبادة صاحب راية رسول الله "صلى الله عليه وآله" في المواطن كلها؛ فإذا كان وقت القتال أخذها علي بن أبي طالب.15
* الصحيح من سيرة الإمام علي (عليه السلام) - بتصرف
1- الأوائل لأبي هلال ج1 ص183. والثقات لابن حبان ج1 ص224 و 225 وراجع: بحار الأنوار ج20 ص49 وتفسير القمي ج1 ص112 ومجمع البيان ج2 ص377 والصافي ج1 ص375 ونور الثقلين ج1 ص385 وكنز الدقائق ج2 ص213 والميزان ج4 ص11 وشرح إحقاق الحق ج32 ص341 وشرح الأخبار ج1 ص269 وج7 ص166 وأعيان الشيعة ج1 ص253 وكشف الغمة ج1 ص191 وعيون الأثر ج1 ص410 و 412.
2- الطبقات الكبرى لابن سعد ج2 ص38 ومغازي الواقدي ج1 ص215 وتاريخ الخميس ج1 ص422 والإرشاد للمفيد ج1 ص80 وبحار الأنوار ج20 ص80 و 81 ومجمع الزوائد ج6 ص114 وشرح نهج البلاغة ج14 ص226 وتاريخ خليفة بن خياط ص38 وتاريخ مدينة دمشق ج42 ص74 وإمتاع الأسماع ج1 ص135 وج7 ص166 وعيون الأثر ج1 ص413 والدر النظيم ص157.
3- الطبقات الكبرى لابن سعد ج2 ص38 و 40 و 42 ومغازي الواقدي ج1 ص215 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج14 ص227 و 232 و 235 و 247 وج15 ص10 و 19 وكنز العمال ج10 ص432 وتاريخ الخميس ج1 ص422 وتاريخ خليفة بن خياط ص38 وتاريخ مدينة دمشق ج42 ص74 وج55 ص267 وج60 ص345 و 347 وأسد الغابة ج4 ص16 وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص193 والكامل في التاريخ ج2 ص152 والبداية والنهاية ج4 ص17 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 ق2 ص25 وإمتاع الأسماع ج1 ص135 وبحار الأنوار ج20 ص80 و 137 و 143 والدرر لابن عبد البر ص147 وجامع البيان ج4 ص167 والتفسير الكبير للرازي ج8 ص224 والجامع لحكام القرآن ج8 ص226 والدر المنثور ج2 ص83 وتفسير الآلوسي ج4 ص42 وإعلام الورى ج1 ص376.
4- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج14 ص235 وإمتاع الأسماع ج7 ص166 والطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص120 وتاريخ الخميس ج1 ص426 عن المنتقى.
5- أنساب الاشراف ج1 ص317 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج14 ص232 والسيرة الحلبية ج2 ص220 و (ط دار المعرفة) ج2 ص492 وأعيان الشيعة ج1 ص254 وسبل الهدى والرشاد ج4 ص190.
6- المناقب للخوارزمي ص21 و 22 و (ط مركز النشر الإسلامي) ص58 والإرشاد للمفيد ص48 و (ط دار المفيد) ج1 ص79 وتيسير المطالب ص49 وذخائر العقبى ص86 وبحار الأنوار ج20 ص81 وج38 ص240 و 256 ومناقب أهل البيت "عليهم السلام" للشيرواني ص39 والإستيعاب (ط دار الجيل) ج3 ص1090 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج4 ص117 ونظم درر السمطين ص134 وشواهد التنزيل ج1 ص118 وتاريخ مدينة دمشق ج42 ص72 وكشف الغمة ج1 ص79 و 190.
7- ذخائر العقبى ص75 والرياض النضرة المجلد الثاني، ج4 ص156 والكامل لابن عدي ج1 ص240 وتاريخ مدينة دمشق ج42 ص72 وينابيع المودة ج2 ص166 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج8 ص527.
8- راجع: ذخائر العقبى ص75 عن أحمد في المناقب. ومناقب آل أبي طالب (ط المكتبة الحيدرية) ج3 ص85 وبحار الأنوار ج42 ص60.
9- راجع: المستدرك للحاكم ج3 ص137 وصححه وقال: له شاهد من حديث زنفل العرفي، وفيه طول. فلم يخرجه الحاكم، والمناقب للخوارزمي ص258 و 259 و (ط مركز النشر الإسلامي) ص358 ومناقب آل أبي طالب (ط المكتبة الحيدرية) ج3 ص85 وبحار الأنوار ج42 ص60 وأعيان الشيعة ج1 ص337.
10- الطبقات الكبرى لابن سعد (ط ليدن) ج3 قسم1 ص15 و (ط دار صادر) ج3 ص25 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج8 ص524 وج32 ص343.
11- لرياض النضرة المجلد الثاني ج3 ص172 عن نظام الملك في أماليه، وكفاية الطالب ص336 وقال: ذكره محدث الشام ـ أي ابن عساكر ـ في ترجمة علي "عليه السلام" من كتابه بطرق شتى عن جابر، وعن أنس، وكنز العمال ج15 ص119 وراجع ص135 و (ط مؤسسة الرسالة) ج13 ص136 عن الطبراني، ومناقب أمير المؤمنين لابن المغازلي ص200 وعمدة القاري ج16 ص216 والمناقب للخوارزمي ص358 ومناقب الإمام أمير المؤمنين "عليه السلام" للكوفي ج1 ص515 وج2 ص498 ومناقب آل أبي طالب ج3 ص27 وبحار الأنوار ج39 ص213 وحـديـث خيثمة ص199 وجـواهـر المطـالب لابن = = الدمشقي ج1 ص182 والمعجم الكبير للطبراني ج2 ص247 وقاموس الرجال للتستري ج10 ص334 وكتاب المجروحين لابن حبان ج3 ص54 والكامل لابن عدي ج7 ص47 وتاريخ مدينة دمشق ج42 ص74 و 75 والموضوعات لابن الجوزي ج1 ص16 و 388 وميزان الإعتدال ج4 ص240 والبداية والنهاية ج7 ص371 وتنبيه الغافلين لابن كرامة ص19 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج15 ص552 و 553 وج23 ص297 وج30 ص224.
12- المستدرك للحاكم ج3 ص500 وصححه على شرط الشيخين هو والذهبي في تلخيص المستدرك، وحياة الصحابة ج2 ص514 و 515 وشرح الأخبار ج2 ص542 وإمتاع الأسماع ج12 ص36 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج18 ص204 والإكمال في أسماء الرجال ص78. وأظن أن القضية كانت مع سعد بن مالك، أبي سعيد الخدري، لأن سعد بن أبي وقاص كان منحرفاً عن أمير المؤمنين. ويشير إلى ذلك ما ذكره الحاكم في مستدركه ج3 ص499 من أن أبا سعيد قد دعا على من كان ينتقص علياً فاستجاب الله له.
13- المصنف للصنعاني ج5 ص288 ومسند أحمد ج1 ص368 والتاريخ الكبير للبخاري ج6 ص258 ومناقب الإمام أمير المؤمنين "عليه السلام" للكوفي ج2 ص496 ومجمع الزوائد ج5 ص321 وتاريخ مدينة دمشق ج20 ص249 والبداية والنهاية ج4 ص22 والسيرة النبوية لابن هشام ج3 ص593 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص39 وسبل الهدى والرشاد ج4 ص194 وج7 ص371 وج9 ص109 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج6 ص19 وج8 ص526 وج18 ص29 و 82 وج23 ص552 وج32 ص356 وجامع المسانيد والمراسيل ج11 ص62 وفضائل الصحابة للنسائي (ط دار الكتب العلمية) ج2 ص797 وراجع: فتح الباري ج6 ص89 عن أحمد عن ابن عباس بإسناد قوي.
14- أسد الغابة ج4 ص20 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج8 ص525 وفي الطبقات الكبرى لابن سعد (ط ليدن) ج3 قسم1 ص15 و (ط دار صادر) ج3 ص25 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص343 وأنساب الأشراف ج2 ص106 ميسرة العبسي بدل سعد بن عبادة.
15- المصنف للصنعاني ج5 ص288.