بسم الله الرحمن الرحيم
نجمل أهداف المأمون، وما كان يتوخاه من أخذ البيعة للرضا "عليه السلام" بولاية العهد بعده.. على النحو التالي:
الهدف الأول:
أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من قبل تلك الشخصية الفذة، شخصية الإمام الرضا "عليه السلام" الذي كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب، وكان الأرضى في الخاصة والعامة ـ باعتراف نفس المأمون ـ، حيث لا يعود باستطاعة الإمام "عليه السلام" أن يدعو الناس إلى الثورة ولا أن يأتي بأية حركة ضد الحكم، بعد أن أصبح هو ولي العهد فيه. ولسوف لا ينظر الناس إلى أية بادرة عدائية منه لنظام الحكم القائم إلا على أنها نكران للجميل، لا مبرر لها، ولا منطق يدعمها.
وقد أشار المأمون إلى ذلك، عندما صرح بأنه: خشي إن ترك الإمام على حاله: أن ينفتق عليه منه ما لا يسده، ويأتي منه عليه ما لا يطيقه فأراد أن يجعله ولي عهده ليكون دعاؤه له.
الهدف الثاني:
أن يجعل هذه الشخصية تحت المراقبة الدقيقة، والواعية من قرب، من الداخل والخارج، وليمهد الطريق من ثم إلى القضاء عليها بأساليبه الخاصة. وقد أشرنا فيما سبق، إلى أننا لا نستبعد أن يكون من جملة ما كان يهدف إليه من وراء تزويجه الإمام بابنته، هو: أن يجعل عليه رقيبا داخليا موثوقا عنده هو، ويطمئن إليه الإمام نفسه.
وإذا ما لاحظنا أيضاً، أن: "المأمون كان يدس الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار من شاء.."1، وأنه كان: للمأمون على كل واحد صاحب خبر2. "..فإننا نعرف السر في إرساله بعض جواريه إلى الإمام الرضا "عليه السلام" بعنوان: هدية.. وقد أرجعها الإمام "عليه السلام" إليه مع عدة أبيات من الشعر، عندما رآها اشمأزت من شيبه"3.
ولم يكتف بذلك، بل وضع على الإمام "عليه السلام" عيوناً آخرين، يخبرونه بكل حركة من حركاته، وكل تصرف من تصرفاته.
فقد كان: "هشام بن إبراهيم الراشدي من أخص الناس عند الرضا "عليه السلام"، وكانت أمور الرضا تجري من عنده، وعلى يده، ولكنه لما حمل إلى مرو اتصل هشام بن إبراهيم بذي الرئاستين، والمأمون، فحظي بذلك عندهما. وكان لا يخفي عليهما شيئاً من أخباره، فولاه المأمون حجابة الرضا. وكان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب، وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه. وكان لا يتكلم الرضا في داره بشيء إلا أورده هشام على المأمون، وذي الرئاستين.."4.
وعن أبي الصلت: أن الرضا "كان يناظر العلماء، فيغلبهم، فكان الناس يقولون: والله، إنه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أهل الأخبار يرفعون ذلك إليه.."5.
وأخيراً.. فإننا نلاحظ: أن جعفر بن محمد بن الأشعث، يطلب من الإمام "عليه السلام": أن يحرق كتبه إذا قرأها، مخافة أن تقع في يد غيره، ويقول الإمام "عليه السلام" مطمئناً له: "إني إذا قرأت كتبه أحرقتها.."6.
إلى غير ذلك من الدلائل والشواهد الكثيرة، التي لا نرى أننا بحاجة إلى تتبعها واستقصائها.
الهدف الثالث:
أن يجعل الإمام "عليه السلام" قريباً منه، ليتمكن من عزله عن الحياة الاجتماعية، وإبعاده عن الناس، وإبعاد الناس عنه، حتى لا يؤثر عليهم بما يمتلكه من قوة الشخصية، وبما منحه الله إياه من العلم، والعقل، والحكمة. ويريد أن يحد من ذلك النفوذ له، الذي كان يتزايد باستمرار، سواء في خراسان، أو في غيرها.
وأيضاً.. أن لا يمارس الإمام أي نشاط لا يكون له هو دور رئيس فيه، وخصوصاً بالنسبة لرجال الدولة، إذ قد يتمكن الإمام "عليه السلام" من قلوبهم، ومن ثم من تدبير شيء ضد النظام القائم. دون أن يشعر أحد.
والأهم من ذلك كله: أنه كان يريد عزل الإمام "عليه السلام" عن شيعته، ومواليه، وقطع صلاتهم به، وليقطع بذلك آمالهم، ويشتت شملهم، ويمنع الإمام من أن يصدر إليهم من أوامره، ما قد يكون له أثر كبير على مستقبل المأمون، وخلافته.
وبذلك يكون أيضاً قد مهد الطريق للقضاء على الإمام "عليه السلام" نهائياً، والتخلص منه بالطريقة المناسبة، وفي الوقت المناسب.
وقد قال المأمون إنه: "يحتاج لأن يضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر. ثم يدبر فيه بما يحسم عنه مواد بلائه.." كما سيأتي.
وقد قرأنا آنفاً: أنه "كان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب [أي هشام بن إبراهيم] وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه".
كما أن الرضا نفسه قد كتب في رسالته منه إلى أحمد بن محمد البيزنطي، يقول: "وأما ما طلبت من الإذن علي، فإن الدخول إلي صعب، وهؤلاء قد ضيقوا علي في ذلك الآن، فلست تقدر الآن، وسيكون إن شاء الله"7.
كما أننا نرى أنه عندما وصل إلى القادسية، وهو في طريقه إلى مرو، يقول لأحمد بن محمد بن أبي نصر: "إكتر لي حجرة لها بابان: باب إلى الخان، وباب إلى خارج، فإنه أستر عليك.."8.
ولعل ذلك هو السبب في طلبه من الإمام "عليه السلام"، ومن رجاء بن أبي الضحاك: أن يمرا عن طريق البصرة، فالأهواز إلخ.. ما سيأتي: ولا نستبعد أيضاً أن يكون عزل الإمام عن الناس، هو أحد أسباب إرجاع الإمام الرضا عن صلاة العيد مرتين9. وللسبب نفسه أيضاً فرق عنه تلامذته، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وحتى لا يظهر علم الإمام، وفضله.. إلى آخر ما هنالك من صفحات تاريخ المأمون السوداء.
الهدف الرابع:
إن المأمون في نفس الوقت الذي يريد فيه أن يتخذ من الإمام مجناً يتقي به سخط الناس على بني العباس، ويحوط نفسه من نقمة الجمهور. يريد أيضاً، أن يستغل عاطفة الناس ومحبتهم لأهل البيت ـ والتي زادت ونمت بعد الحالة التي خلفتها الحرب بينه وبين أخيه ـ ويوظف ذلك في صالحه هو، وصالح الحكم العباسي بشكل عام.
أي أنه. كان يهدف من وراء لعبته تلك، والتي كان يحسب أنها سوف تكون رابحة جداً ـ إلى أن يحصل على قاعدة شعبية، واسعة، وقوية. حيث كان يعتقد ويقدر: أن نظام حكمه سوف ينال من التأييد، والقوة، والنفوذ، بمقدار ما كان لتلك الشخصية من التأييد، والنفوذ والقوة. وإذا ما استطاع في نهاية الأمر أن يقضي عليها، فإنه يكون قد أمن خطراً عظيماً، كان يتهدده من قبلها. بمقدار ما كان لها من العظمة والخطر.
إن المأمون قد اختار لولاية عهده رجلاً يحظى بالاحترام والتقدير من جميع الفئات والطبقات، وله من النفوذ، والكلمة المسموعة، ما لم يكن لكل أحد سواه في ذلك الحين. بل لقد كان الكثيرون يرون: أن الخلافة حق له، وينظرون إلى الهيئة الحاكمة على أنها ظالمة له وغاصبة لذلك الحق:
يقول الدكتور الشيبي، وهو يتحدث عن الرضا "عليه السلام": "إن المأمون جعله ولي عهده، لمحاولة تألف قلوب الناس ضد قومه العباسيين، الذين حاربوه، ونصروا أخاه.."10.
ويقول:. "..وقد كان الرضا من قوة الشخصية، وسمو المكانة: أن التف حوله المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته.."11.
وكذلك هو يقول ـ وهو مهم فيما نحن بصدده ـ: "..إن الرضا لم يكن بعد توليته العهد إمام الشيعة وحدهم، وإنما مر بنا:
أن الناس، حتى أهل السنة، والزيدية، وسائر الطوائف الشيعية المتناحرة.. قد اجتمعت على إمامته، واتباعه، والالتفاف حوله.."12.
وهذا كما ترى تصريح واضح منه بهدف المأمون، الذي نحن بصدد بيانه.
ويقول محمد بن طلحة الشافعي مشيراً إلى ذلك، في معرض حديثه عن الإمام الرضا "عليه السلام": "..نما إيمانه، وعلا شأنه، وارتفع مكانه، وكثر أعوانه، وظهر برهانه، حتى أدخله الخليفة المأمون محل مهجته، وأشركه في مملكته.."13.
وتقدم: أنه "عليه السلام" كان ـ باعتراف المأمون ـ "الأرضى في الخاصة والعامة" وأن كتبه كانت تنفذ في المشرق والمغرب، حتى إن البيعة له بولاية العهد، لم تزده في النعمة شيئاً.. وأنه كان له من قوة الشخصية ما دفع أحد أعدائه لأن يقول في حقه للمأمون: "هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد دون الله" إلى آخر ما هنالك، مما قدمنا "غيضاً من فيض منه".
كما وتقدم أيضاً قول المأمون في رسالته للعباسيين: "..وإن تزعموا: أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة [يعني للعلويين]، فإني في تدبيركم، والنظر لكم، ولعقبكم، وأبنائكم من بعدكم.."، وأيضاً عبارته التي كتبها المأمون بخط يده في وثيقة العهد.
وهكذا.. فما على العباسيين إلا أن ينعموا بالاً، ويقروا عيناً، فإن المأمون كان يدبر الأمر لصالحهم ومن أجلهم.. وليس كما يقوله الدكتور الشيبي، وغيره من أنه أراد أن يحصل على التأييد الواسع، ليقابل العباسيين، ويقف في وجههم.
* الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام -العلاّمة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي - بتصرّف
1- تاريخ التمدن الإسلامي ج5 جلد 2 ص549، نقلاً عن: العقد الفريد ج1 ص148.
2- تاريخ التمدن الإسلامي ج4 جلد 2 ص441، نقلاً عن: المسعودي ج2 ص225، وطبقات الأطباء ج1 ص171.
3- بحار الأنوار ج49 ص164، وعيون أخبار الرضا ج2 ص178.
4- بحار الأنوار ج49 ص139، ومسند الإمام الرضا ج1 ص77، 78، وعيون أخبار الرضا ج2 ص153.
5- شرح ميمية أبي فراس ص204، وبحار الأنوار ج49 ص290، وعيون أخبار الرضا ج2 ص239.
6- كشف الغمة ج3 ص92، ومسند الإمام الرضا ج1 ص187، وعيون أخبار الرضا ج2 ص219.
7- رجال المامقاني ج1 ص79، وعيون أخبار الرضا ج2 ص212.
8- بصائر الدرجات ص246، ومسند الإمام الرضا ج1 ص155.
9- هذه القضية معروفة ومشهورة، فراجع: الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص246، 247، ومطالب السؤول، لمحمد بن طلحة الشافعي، طبعة حجرية ص85، وإثبات الوصية للمسعودي ص205، ومعادن الحكمة ص، 180، 181، ونور الأبصار ص143، وشرح ميمية أبي فراس ص165، وإعلام الورى ص322، 323، وروضة الواعظين ج1 ص271، 272، وأصول الكافي ج1 ص489، 490، وبحار الأنوار ج49 ص135، 136، 171، 172، وعيون أخبار الرضا، وإرشاد المفيد، وأعيان الشيعة، وكشف الغمة، وغير ذلك.ولسوف يأتي فصل: خطة الإمام، وغيره من الفصول، ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى.
10- الصلة بين التصوف والتشيع ص223، 224.. ونحن لا نوافق الدكتور الشيبي على أنه كان يريد التقوي بذلك على العباسيين، كما اتضح، وسيتضح إن شاء الله.
11- المصدر السابق ص214.
12- المصدر السابق ص256.
13- مطالب السؤول ص84، 85. وقريب منه ما في: الإتحاف بحب الأشراف ص58.