تاريخ الخروج وكيفيته:
تحرَّك موكب سبايا أهل البيت(عليهم السلام) من كربلاء المقدّسة نحو مدينة الكوفة وهو يقطع الصحاري، حاملاً الذكريات الموحشة والمؤلمة لليلة الفراق والوحشة، التي قضوها على مقربة من مصارع الشهداء، في الحادي عشر من المحرّم 61 هـ. وقد حمل جيش عمر بن سعد السبايا على أحلاس أقتاب الجمال بغير وطاء ولا غطاء، وساقوهم كما يساق سبي الترك والروم في أشد المصائب، وتتقدّمهم الرؤوس على الرماح، حتى دخل الركب الكوفة في اليوم الثاني عشر من المحرَّم 61 هـ، واقتسمت القبائل الرؤوس لتأتي بها إلى ابن زياد: فكانت رؤوس أهل بيت الحسين(عليه السلام) وأصحابه ثمانية وسبعين رأساً، فاقتسمتها القبائل لتقرب بذلك إلى عبيد الله بن زياد وإلى يزيد بن معاوية. فجاءت كندة بثلاثة عشر رأساً، وصاحبهم قيس بن الأشعث، وجاءت هوازن باثني عشر رأساً، وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن، جاءت تميم بسبعة عشر رأساً، وجاءت بنو أسد بستة عشر رأساً، وجاءت مذحج بسبعة رؤوس، وجاء باقي الناس بثلاثة عشر رأساً. (اللهوف في قتلى الطفوف: 84)
مواقف السيدة زينب بعد كربلاء:
تعتبر واقعة كربلاء من أهم الأحداث التي عصفت بالأمّة الإسلاميّة بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وكان للسيدة زينب(عليها السلام) دور أساسي ورئيسي في هذه الثورة العظيمة، فهي الشخصية الثانية على مسرح الثورة بعد أخيها الحسين(عليه السلام)، كما أنّها قادت مسيرة الثورة بعد استشهاد أخيها الحسين(عليه السلام) وأكملت ذلك الدور بكلّ حكمة و جدارة.
1- بُعَيد شهادة الحسين(عليه السلام):
حينما حدثت الفاجعة الكبرى بمقتل أخيها الحسين(عليه السلام)، بعد قتل كل رجالات بيتها وأنصارهم خرجت السيدة زينب تعدو نحو ساحة المعركة، تبحث عن جسد أخيها الحسين بين القتلى غير عابئة بالأعداء المدجّجين بالسلاح، فلما وقفت على جثمان أخيها الحسين(عليه السلام)، فالكل كان يتصور أنها سوف تموت أو تنهار وتبكي وتصرخ أو يغمى عليها، لكن ما حدث هزّ أعماق الناظرين، فوضعت يدها تحت جسده الطاهر المقطع ورفعته نحو السماء وهي تدعو بمرارة قائلة (اللهم تقبل منّا هذا القربان).
2- خطبتها في الكوفة: لما دخل موكب السبايا الكوفة، خرج الناس إلى الشوارع، بين مُتسائل لا يدري لمن السبايا، وبين عارف يُكفكف أدمعاً ويُضمر ندماً.
ثمَّ اتَّجه موكب السبايا نحو قصر الإمارة، مُخترقاً جموع أهل الكوفة، وهم يبكون لما حلَّ بالبيت النبوي الكريم، قال بشير بن خزيم الأسدي: ونظرتُ إلى زينب بنت علي يومئذ، ولم أر خفرة والله أنطق منها، كأنّها تفرع من لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدت الأنفاس، وسكنت الأجراس، ثمّ قالت: (الْحَمْدُ للهِ، وَالصَّلاَةُ عَلىَ جَدِّي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّيِّبِينَ الأَخْيَارِ، اَمَّا بَعْدُ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، يَا أَهْلَ الْخَتْلِ والْغَدْرِ، أَتَبْكُونَ؟! فَلَا رَقَأَتِ الدَّمْعَةُ، ولَا هَدَأَتِ الرَّنَّةُ، إِنَّمَا مَثَلُكُمْ كَمَثَلِ الَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً، تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ...َأتَبْكُونَ وَتَنْتَحِبُونَ؟! إِيْ وَاللهِ فَابْكُوا كَثِيراً، واضْحَكُوا قَلِيلاً، فَلَقَدْ ذَهَبْتُمْ بِعَارِهَا وَشَناَرِهَا...وَيْلَكُمْ يَا أَهلَ الْكُوفَةِ، أَتَدْرُونَ أَيَّ كَبِدٍ لِرَسُولِ اللهِ فَرَيْتُم؟! وَأيَّ كَرِيمَةٍ لَهُ أبْرَرْتُمْ؟! وَأيَّ دَمٍ لَهُ سَفَكْتُمْ؟! وَأيَّ حُرْمَةٍ لَهُ انتَهَكْتُمْ؟! لَقَدْ جِئْتُمْ بِهَا صَلعَاءَ عَنْقَاءَ سَوْدَاءَ فَقُمَاءَ...أَفَعَجِبْتُمْ أَنْ مَطَرَتِ السَّمَاءُ دَماً، وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزىَ وَأَنْتُمْ لاَ تُنْصَرُونَ..)
وخلاصة ما أرادت إيصاله إليهم: إيضاح الصورة للرأي العام. وإثارتهم على الأمويين، وإظهار المصيبة الكبرى التي داهمت العالم الإسلامي بقتل ريحانة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وتحميل الكوفيّين مسؤولية هذه الجريمة النكراء.
فلقد قرّعتهم عقيلة الرسول بخطابها البليغ، وعرّفتهم زيف إسلامهم، وكذب دموعهم، وأنّهم من أحطّ المجرمين، فقد اقترفوا أفظع جريمة وقعت في الأرض، فقد قتلوا المنقذ الذي أراد لهم الخير، وفروا بقتله كبد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وانتهكوا حرمته، وسبوا عياله، فأي جريمة أبشع من هذه الجريمة.
3- الحجة والمنطق في مواجهة ابن زياد:
ولمّا رَوَّى المجرم الخبيث ابن مرجانة أحقاده من رأس ريحانة رسول الله(صلى الله عليه وآله) التفت إلى عائلة الإمام الحسين(عليه السلام) فرأى سيّدة منحازة في ناحية من مجلسه، وقد حفت بها المهابة والجلال، فانبرى ابن مرجانة سائلاً عنها، فقال: مَن هذه التي انحازت ناحية ومعها نساؤها؟ فأعرضت عنه احتقاراً واستهانة به، وكرّر السؤال فلم تجبه فانبرت إحدى السيّدات فأجابته: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله). فقال لها: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم، وأبطل أحدوثتكم. فثارت حفيدة الرسول(صلى الله عليه وآله) وأجابته بشجاعة أبيها محتقرة له قائلة: (الحمْدُ للهِ الَّذي أَكْرَمَنَا بِنَبِيِّهِ، وَطَهَّرَنــــَا مِنَ الرِّجْسِ تَطْهِيراً، إِنَّمَا يَفْتَضِحُ الْفَاسِقُ وَيَكْذِبُ الْفَـــاجِرُ، وَهُوَ غَيْـــرُنَا يَا بْنَ مَرْجَانَة) وكذالك عندما خاطبها مستهزئا: كيف رأيت صنع الله بأخيك؟ فأجابته حفيدة الرسول(صلى الله عليه وآله) بكلمات الظفر والنصر لها ولأخيها قائلة: (ما رَأَيْتُ إِلاّ جَمِيلاً، هؤُلاَءَ قَوْمُ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْقَتَلَ، فَبَرَزُوا إِلى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمعُ اللهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، فَتُحَاجُّ وَتُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلَجُ يَومَئِذٍ، ثَكَلَتْكَ أُمُّكَ يا بْنَ مَرْجَانَةَ..).
4- إنقاذ العقيلة للإمام زين العابدين(عليه السلام): وأدار ابن مرجانة بصره في بقية الأسرى من أهل البيت فوقع بصره على الإمام زين العابدين(عليه السلام)، وقد أنهكته العلّة فسأله: مَن أنت؟ فقال(عليه السلام): عليّ بن الحسين.. - بعد حوار مع الإمام(عليه السلام) - التفت ابن مرجانة إلى بعض جلاديه فقال له: خذ هذا الغلام واضرب عنقه. فانبرت العقيلة بشجاعة لا يرهبها سلطان، فاحتضنت ابن أخيها، وقالت لابن مرجانة: (حسبك يَا بْنَ زِيَادٍ مَا سَفَكْتَ مِن دِمَائِنَا، إِنَّكَ لَمْ تُبْقِ مِنّا أَحَداً، فَإنْ كُنْتَ عَزَمْتَ عَلى قَتْلِهِ فَاقْتُلْني مَعَهُ..). وبهر الطاغية وانخذل، وقال متعجّباً: دعوه لها، عجباً للرحم ودَّت أن تقتل معه.
5- رعاية أطفال الحسين في السجن:
وأمر ابن مرجانة بحبس مخدرات الرسالة وعقائل الوحي، فأُدخلن في سجن، وقد ضيّق عليهنّ أشدّ التضييق، فكان يعطي لكلّ واحدة في اليوم رغيفاً واحداً من الخبز، وكانت العقيلة تؤثر أطفال أخيها برغيفها وتبقى ممسكة حتى بان عليها الضعف، فلم تتمكّن من النهوض وكانت تصلّي من جلوس، وفزع الإمام زين العابدين(عليه السلام) من حالتها فأخبرته بالأمر.
6- في مجلس الطاغية يزيد:
وفي اليوم التالي أمر ابن زياد جنده بالتوجّه بسبايا آل البيت(عليهم السلام) إلى الشام، إلى الطاغية يزيد بن معاوية، وأمر أن يكبّل الإمام زين العابدين(عليه السلام) بالقيود، وأركب بنات الرسالة الإبل الهُزّل تنكيلاً بهنّ، وأظهر الطاغية يزيد بن معاوية فرحته الكبرى بإبادته لعترة رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأخذ يهزّ أعطافه جذلاناً متمنّياً حضور القتلى من أهل بيته ببدر ليريهم كيف أخذ بثأرهم من ذرية النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وراح يترنّم هذه الأبيات التي مطلعها:
لَيْــــتَ أَشـــــْيَاخِي بِبَدرٍ شَـهِدُو فَزَعَ الْخَزْرَجِ مِـنْ وَقْعِ الأَسَـلْ
ولمّا سمعت العقيلة هذه الأبيات ألقت خطبتها الشهيرة بفصاحة وشجاعة أبيها علي(عليه السلام) وقد ضمّنتها أعنف المواقف لفرعون عصره يزيد ومما قالته(عليها السلام): (أَلْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلىَ مُحَمّدَ وآلِهِ أَجْمَعِيَن، صَدَقَ اللهُ) كَذَلكَ يَقُولُ: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُونَ﴾. أَمِنَ الْعَدْلِ يَا بْنَ الطُّلَقَاءِ تَخْدِيرُكَ حَرَائِرَكَ وَإمَاءَكَ وَسَوقُكَ بَنَاتِ رَسُولِ اللهِ سَبَايَا؟! قدْ هَتَكْتَ سُتورَهُنَّ، وَأَبْدَيْتَ وُجُوهَهُنَّ، تَحْدُو بِهِنَّ الأَعْدَاءُ مِنْ بَلَدِ إلى بلدٍ،.. وَيَتَصَفَّحُ وُجُوهَهُنَّ الْقَرِيبُ وَالبَعِيدُ.. أَللَّهُمَّ خُذْ بِحَقِّنَا، وَانتَقِمْ مِمَّنْ ظَلَمَنَا، وَاحْلُلْ غَضَبَكَ بِمَنْ سَفَكَ دِمَاءَنَا وَقَتَلَ حُمَاتَنَا.فَوَاللهِ مَا فَرَيْتَ إِلاَّ جِلْدَكَ، وَلا حَزَزْتَ إِلاَّ لَحْمَكَ، وَلَتَرِدَنَّ عَلى رَسُولِ الله(صلى الله عليه وآله) بِمَا تَحَمَّلْتَ مِنْ سَفْكِ دِمَاءِ ذُرّيَّتِهِ، وَانْتَهكْتَ مِنْ حُرْمَتِهِ فِي عِتْرَتِهِ وَلُحْمَتِهِ.. فَكِدْ كَيْدَكَ، وَاسْعَ سَعْيَكَ، ونَاصِبْ جَهْدَكَ، فَوَاللهِ لاَ تَمْحُوَنَّ ذِكْرَنَا، ولاَ تُمِيتُ وَحْيَنَا، وَلاَ تُدْركُ أَمَدَنَا، وَلاَ تَرْحَضُ عَنْكَ عَارَهَا.
* مجلة المحراب