بسم الله الرحمن الرحيم
الوراثة الحضارية هى انتقال القيم والافكار والرؤى والاعراف والاخلاق من جيل الى جيل، ولهذه الوراثة قوانين واصول كما للوراثة فى النبات والحيوان والانسان. وبموجب هذه القوانين تنتقل الحضارة من جيل الى جيل، فيبدأ الجيل الجديد حياته من حيث انتهى الجيل السابق وليس من الصفر.
وعبر هذه العوامل انتقل الينا هذا التيار الحضارى الكبير من عصر آدم عليه السلام وعصور ابراهيم ونوح وموسى وعيسى ورسول اللّه صلى الله عليه واله. ونحن قطعة من هذا الماضى العريق، وفرع من تلك الجذور الممتدة فى عمق التاريخ، تلقينا هذه القيم والمعارف عبر قنوات الوراثة الحضارية من جيل الى جيل، ومن الموكد ان سلامة هذه الجسور والقنوات تسرع عملية انتقال الحضارة من جيل الى جيل، كما أن تعطيلها وخرابها يعرقل الصلة بين الاجيال. ولو توقفت هذه الجسور بصورة نهائية عن اداء دورها الحضارى فى المجتمع لانقطع الجيل اللاحق عن الجيل السابق، انقطاعاً كاملا. وأهم هذه القنوات والجسور:
1. البيت.
2. المدرسة.
3. المسجد.
وعبر هذه الجسور الثلاثة تحركت الحضارة الالهية ووصلت الحاضر بالماضى والخلف بالسلف، وبسبب الدور الكبير الذى يقوم به البيت والمدرسة والمسجد، فى عملية الاتصال الحضارى، يعطي الاسلام اهتماما كبيرا لهذه المراكز الثلاثة وبنائها واعمارها. وفى ما يلى توضيح موجز لهذه القنوات الثلاث.
1- البيت:
ونقصد بالبيت: الاسرة. ودور الاسرة، فى نقل المواريث الحضاريه إلى الجيل الصاعد، كبير. والانطباعات الاولى التى تنطبع عليها شخصية الطفل تتكون فى داخل الاسرة، وتبقى هذه الانطباعات ذات تاثير فعال فى شخصية الانسان فى مستقبل حياته.
يقول أمير المومنين عليه السلام لولده الامام الحسن المجتبى عليه السلام: (وانما قلب الحدث كالارض الخالية، ما القى فيها من شىء قبلته، فبادرتك بالادب قبل ان يعشو قلبك، ويشتغل لبك).
ولسلامة بناء الاسرة أثر كبير فى سلامة تربية الابناء، كما ان لفسادها دور كبير فى إفساد الجيل الناشىء وتخريبه.
روى عن رسول اللّه صلى الله عليه واله: (ما من بيت ليس فيه شىء من الحكمه الا كان خرابا).
وبعكس ذلك الاسرة الصالحة، فهى قادرة على اداء دور فعال فى بناء الجيل ونقل القيم والمواريث الحضارية الى الجيل الذى ينشأ فى أحضانها.
ولنستمع الى أمير المومنين عليه السلام يشرح لولده الحسن المجتبى عليه السلام كيف نقل اليه خلاصه خبراته ووعيه للحضارة والتاريخ: (اى بنى، انى وان لم اكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت فى اعمالهم وفكرت فى اخبارهم وسرت فى آثارهم، حتى عدت كأحدهم، بل كأنى بما انتهى الى من امورهم قد عمرت مع اولهم الى آخرهم... فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كل امر نخيله، وتوخيت لك جميله، وصرفت عنك مجهوله).
ويتحدث امير المومنين عليه السلام عن الجو العائلى الذى احتضنه بالتربيه والرعايه وهو صغير، وما تركت هذه التربيه والرعاية العائلية فى بناء شخصيته من أثر: (وقد علمتم موضعى من رسول اللّه صلى الله عليه واله بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعنى فى حجره وانا ولد، يضمنى الى صدره، ويكنفنى فى فراشه، ويمسنى جسده، ويشمنى عرفه، وكان يمضغ الشىء ثم يلقمنيه، وما وجد لى كذبه فى قول، ولا خطلة فى فعل... ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل اثر امه، يرفع لى فى كل يوم من اخلاقه علما، ويأمرنى بالاقتداء به، ولقد كان يجاور كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيرى، ولم يجمع بيت واحد فى الاسلام غير رسول اللّه صلى الله عليه واله وخديجه وانا ثالثهما، ارى نور الوحى والرسالة، واشم ريح النبوة).
2- المدرسة:
واقصد بالمدرسة المراكز والوسائل التثقيفية فى مختلف مراحلها، والجهاز البشرى الذى يتولى تثقيف الناشئة وتعليمها.. وهذا حقل واسع يشمل المدرسه والكتب والمناهج والمدرسين والفعاليات الثقافية والتربوية والخط والحرف واللغة والثقافة والاعلام والصحافة وغير ذلك.
والمدرسة، فى هذا الاطار الواسع، تعد من اهم الجسور التى تقوم بعملية نقل المواريث الحضارية من جيل الى جيل وربط الاجيال بعضها ببعضها الاخر، ووصل الجيل الصاعد بالجيل الهابط.
واذا كان الانسان يتلقى الانطباعات الاولى فى حياته من البيت، فان المرحلة الثانية من هذه الانطباعات تتكون فى عقله ونفسه فى المدرسة.
وقد ورد فى النصوص الاسلامية تاكيدا كثيراً على قيمة المعلم واحترامه.
فعن ابى جعفر عليه السلام ، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه واله: (ان معلم الخير يستغفر له دواب الارض وحيتان البحر وكل ذى روح فى الهواء وجميع اهل السماء والارض).
وعن ابى عبداللّه الصادق عليه السلام: (من علم خيرا فله بمثل اجر من عمل به. قلت: فان علمه غيره، يجرى ذلك له؟ قال: ان علم الناس كلهم جرى له. قلت: وان مات؟ قال: وان مات).
وعن ابى عبداللّه عليه السلام ، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه واله: (يجىء الرجل يوم القيامة، وله من الحسنات كالسحاب الركام او كالجبال الرواسى، فيقول: يا رب انى لي هذا ولم اعملها؟ فيقول: هذا عملك الذى علمته الناس يعمل به بعدك).
وعلم عبد الرحمن السلمى ولدا للحسين عليه السلام سورة الحمد، فلما قرأها على ابيه اهدى الامام للمعلم مالا كثيرا وحليه كثيره وحشا فاه درا. فقيل له فى ذلك، فقال عليه السلام : (واين يقع هذا من عطائه يعنى تعليمه).
3- المسجد:
والجسر الثالث من الجسور الثلاثه: المسجد، وهو، فى الاسلام، مركز للعبادة والتوجيه الفكرى والاخلاقى والسياسى، وللتعاون على اعمال الخير والبر، وله دور مركزى ورئيسى فى الفعاليات والاعمال التى تقع فى هذه الدائرة.
والنص التالى يكشف عن قيمة المسجد ودوره فى المجتمع الاسلامى: عن امير المومنين على عليه السلام: من اختلف الى المسجد اصاب احدى الثمان:
1- أخا مستفادا فى اللّه.
2- او علما مستطرفا.
3- او آيه محكمة.
4- او رحمة منتظرة.
5- او كلمة ترده عن ردى.
6- او يسمع الى كلمة تدل على الهدى.
7- او يترك دنيا خسيسة.
8- أو حياء.
وقد كانت المساجد، فى التاريخ الاسلامى، مدارس للفكر والثقافة، ومنابر للتهذيب والتربية ومواقع للحركة والثورة والعمل الاجتماعى والسياسى، ومن انشط الموسسات الاجتماعية والثقافية والسياسية فى حياة المسلمين. وكانت تقوم بمهمة أساسية فى نقل مواريث الحضارة الاسلامية من جيل إلى جيل.
كما كانت معقلا من امنع معاقل الفكر والقيم الاسلامية، وفى هذا المعقل استطاع المسلمون ان يحفظوا تراثهم الفكري والحضارى من غارة العدوان الجاهلى.
الشيخ محمد مهدى الاصفى