الشعائر الحسينية في دائرة العولمة
إذا أردنا أن ندرس الشعائر الحسينية دراسة شاملة: فلابدّ أن ندرسها في إطار بحث
العولمة، وذلك بسبب وجود حالة الانفتاح والحوار بين الأُمم، ويمكننا أن ندرس الخطاب
الحسيني في إطار العولمة باعتبار أنَّ الإمام الحسين(عليه السلام) إمام معصوم، وهو
القرآن الناطق.
الشعائر الحسينية وخطاب العولمة:
هل نستطيع أن نستخلص خطاباً حسينياً عولمياً يعطي حلولا للبشرية ككل في شتّى
المجالات؟ وهل الكلمات الحسينية والخطب الحسينية تتضمّن الصفة العولمية، وتخاطب
العالم خطاباً يضع يده على الداء فيطيب؟
الشعائر الحسينية تدعو إلى التضحية والفداء لا إلى
التقهقر واليأس
واستكمالا للحديث الآتي في سياق الردّ على الإشكال الذي يقول: إنّ الشعائر الحسينية
شعائر تتضمّن عُقدة الذنب، وإيقاع العقوبة على النفس من أجل التكفير عن الذنب،
وأنّها نتيجة الفشل واليأس والتقهقر والانتكاس الذي يعيشه الشيعة، وقد مرّ علينا
أنّه لابدّ أن ندرس الشعائر الحسينية من حيث المضامين التي تنطوي عليها هذه الشعائر،
من الفداء والتضحية والإباء والتغيير الإيجابي ورفض الظلم، وتحشيد الطاقات من أجل
النهوض بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد وعدم الركون للدنيا وزخرفها وزبرجها،
والثبات والصمود والاستبسال.
إذن الإعلام الحسيني، مع أنّه ينطوي على الحزن والجزع إلاّ أنّه يضخّ في وجدان
الأُمّة وفكرها وروحها، ويعمل على تعبئة النفوس بمفاهيم التضحية والفداء، وهذا ما
لا يتناسب مع الكسل والخمول والفشل والتراجع واليأس والتقهقر كما يطرحه هذا الإشكال،
وحالة تعبئة المقاتلين بالحماس، وبحبّ الوطن حالة متعارفة عند أصحاب القتال
والعسكريين.
الحثّ على زيارة الحسين في أشدّ الظروف صعوبة
ونلاحظ أنّ الحسينيين على مرّ التاريخ يتميّزون بالتفاني واسترخاص النفس وبذل
الغالي والنفيس، وهناك العديد من الفقهاء يفتون بجواز زيارة الحسين(عليه
السلام)حتّى مع وجود المخاطر والظروف الأمنية الصعبة.
كما أنّ هناك روايات مستفيضة تحثّ على زيارة الحسين(عليه السلام) حتى في الظروف
الصعبة1، وهناك العديد من شواهد التاريخ على ذلك.
وهناك روايات يمكن قراءتها في كتاب الوسائل في نهاية كتاب الحج، وفيها حثّ أكيد
شديد على زيارة سيد الشهداء(عليه السلام) من قبل الأئمة(عليهم السلام) في ظل تشديد
الدولة آنذاك على الأئمة(عليهم السلام)، حتّى أنّ الإمام الهادي والإمام
العسكري(عليهم السلام)، قد سجنا في سجن عسكري، ومن المعروف أنّ السجن العسكري فيه
تشديد أكثر من السجن المدني; لأنّه يعتبر قاعدة عسكرية للجيش، ولو دققنا في الأمر
لوجدنا أنّ الإمامين العسكريين(عليهما السلام) قد سجنا في سجن عسكري في سامراء، مع
أنّ الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) قد سجن في سجون مدنيّة، ومع أنّها كانت رديئة
ومعاملتهم معه سيئة إلاّ أنّ السجن العسكري للإمامين العسكريين يدلّ على توتر
الأجواء الأمنيّة، واستنفار الدولة العباسية، وإلاّ لما سجنت هذين الإمامين في أكبر
قاعدة عسكرية لأكبر دولة عظمى آنذاك، وهذا يدل على ترقب الدولة العباسية لظهور
الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف)، ولن نستغرق في الكلام عن هذه النقطة
المعترضة للحديث.
الإمام الهادي(عليه السلام) يأمر أبا هاشم الجعفري بزيارة
الحسين(عليه السلام) في عصر المتوكل
يحدّثنا التاريخ عن مرض الإمام الهادي(عليه السلام) في سامراء، ولم تكن سامراء
مدينة كما نراها الآن، بل كانت قاعدة عسكرية مدجّجة بالسلاح والجنود، وقد انتدب
الإمام الهادي(عليه السلام) داود أبا هاشم الجعفري، وهو أحد كبار تلاميذ الإمام،
وهو فقيه من الفقهاء الكبار، والذي كان من نسل جعفر الطيار، وكان من تلاميذ الرضا
والجواد والهادي(عليهم السلام)، وهذا الشخص شخص عزيز لا يفرّط به، مع ذلك انتدبه
الإمام الهادي(عليه السلام) للدعاء له تحت قبة الحسين(عليه السلام)، وكان ذلك في
زمن المتوكل المعروف ببغضه للحسين وأهل البيت(عليهم السلام)، وفتكه بشيعتهم حتّى
أنّه كان يقطع أيدي زوّار الحسين(عليه السلام).
إذن إرسال الإمام الهادي(عليه السلام) لأبي هاشم الجعفري في هذا الجو الخطر رغم
مقامه العلمي الشامخ يدل على اهتمام الإمام البالغ بزيارة الإمام الحسين(عليه
السلام)، وعندما استغرب أبو هاشم الجعفري من هذا الطلب من الإمام المعصوم المستجاب
الدعوة، قال له الإمام الهادي(عليه السلام): "... إنّ لله مواضع يحب أن يعبد فيها،
وحائر الحسين(عليه السلام) من تلك المواضع"2.
الأنبياء يحملون أرقى نماذج العولمة
العولمة تنطوي على معنى التوحيد في الرؤية والتجارة والقانون والاتصال والسياسة
والأمن والحاكمية والثقافة والفكر، وهي مضادّة للتفرقة والاختلاف والتمييز.
قد مرّت البشرية بأدوار عديدة، مع وجود الرسل الذين كانوا يتميّزون بوحدة الهدف،
ويحملون نفس المشروع الإصلاحي الإلهي على الأرض، وقد تكبّدت البشرية التي رفضت هذه
الرسالات السماوية خسائر فادحة نتيجة عدم الاستجابة للأنبياء، فعانت من التفرقة
والتمييز والعنصرية.
إذن الأنبياء يحملون مشروع العولمة الإلهية لجميع البشر وهو يضمن لهم السعادة
والنظام والعدل.
نزعة البشر للتوحّد، ونزعتهم للتفرّق
هناك نزعتان للبشرية: إحداهما للوحدة، والأُخرى للاختلاف والتكتل والتحزّب والتفرق،
ومن مظاهر النزوع للاختلافِ نظام الحكم الملكي والنظامِ السلطاني ونظام القبائل
ونظام التمييز العرقي المنتشر في إفريقيا، بل في الحضارات الغربية، فنسمع عن
النازية في ألمانيا على سبيل المثال وكذلك النظام القومي الذي برز في تركيا ودور
أتاتورك فيها، وإيران والقومية الفارسية ودور شاه ايران فيها، والقوميّون العرب،
وهناك النظام الوطني، هذه أنظمة تضمن التوحّد في الإطار الضيّق المتمثّل في الوطن
والعرق والقومية، ولكنها تمثّل تفرّقاً على مستوى المجموع البشري والعالم، فهي
توحّد من جانب، وتفرّق من جانب آخر. وكذلك نرى هذه التفرقة على مستوى الطرح
الرأسمالي التي تتجلّى فيه التفرقة بين طبقات المجتمع بصورة واضحة.
الأُمم المتحدة مظهر من مظاهر الوحدة
ولو ألقينا نظرة على الأُمم المتحدة التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية، فكانت
من مصاديق الوحدة على عدّة محاور، منها: المحور الثقافي والتعليم المتمثّل في
اليونيسكو، وعلى محور القضاء محكمة لاهاي الدولية، وعلى المحور الاقتصادي المتمثّل
في البنك الدولي، وكذلك الوحدة في الأمن المتمثّل في مجلس الأمن، والوحدة في
القانون، مثل: قانون الفيتو.
وظهرت قبل الأُمم المتحدة تحالفات سياسية وعسكرية كانت تمثّل توحّد نسبي، أي: توحّد
من جهة ضيّقة، وتفرّق من جهة أُخرى، وهي الجهة التي تمثّل التوحّد العالمي.
وقد ترقّت مظاهر الوحدة إلى أن تجسّدت في الأُمم المتحدة، مع أنّها تعترف بأنّ لكل
دولة قانونها الخاص بها.
الإمام المهدي (عجّل اللّه فرجه الشريف) سيقيم حكومة عالمية
والنزوع الى الوحدة في البشرية مطلب بشري يتحقق في حكومة عالمية يقودها الإمام
المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف الذي سيقيم حكومة عالمية باتفاق المسلمين بغض
النظر عن بعض الفروقات الجانبية تكون في توحّدها أرقى من نظام الأُمم المتحدة التي
تتعرّض إلى الكثير من الانتقادات من هذه الجهة أو تلك، وذلك لما تتمتع به حكومة
الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف بقيادة معصومة تستمد نهجها من الخط الإلهي
والنظرة الإلهية للكون والإنسان.
العولمة تصبّ في عدّة مجاري
النظام العالمي الواحد يتمثّل في النظام السياسي الذي يحكم العالم، وهناك النظام
العالمي العقائدي الذي يوحّد العالم في العقيدة، والبحث عن القواسم المشتركة بين
المذاهب يصبّ في هذا المجال باعتبار أنّ الحوار بين المذاهب مقدّمة للحوار بين
الأديان، وهناك الوحدة التجارية والاقتصادية والمالية، وهناك عولمة جغرافية، وعولمة
لغوية تجعل لغة واحدة تسود جميع البشر باعتبارها اللغة الأقوى، بل والعولمة في
الإعلام ووحدة مشهد الحدث، حيث ينظر الجميع إلى مشهد واحد من خلال وسائل الإعلام،
بل وحتّى وحدة الأزياء والملابس والعادات والتقاليد، والإعلام له دور كبير حتى في
الحروب لا يقل أهمية عن الجوانب الأُخرى في كسب الأطراف، وفي بيان أحقيّة الفئة
التي تستخدم هذه الوسائل الإعلامية في صالحا; لأنّ الإعلام يعتمد على الفكر والفكر
هوالذي يؤثّر في صنع الرأي العام، بل وفي اتخاذ الموقف العسكري المناسب.
بل هناك سعي لحاكمية النظام العالمي الموحّد، وتذويب الأنظمة الصغيرة، وجعلها خاضعة
إلى النظام العالمي الكبير.
العولمة نظام سبق له أن طبّق في العصور السابقة
على الصعيد الإسلامي نرى أنّ نهضة سيد المرسلين(صلى الله عليه وآله) وتبليغه لرسالة
الإسلام نوع من أنواع العولمة.
وقد عاشت البشرية عدّة نماذج للعولمة، منها: دولة الإسكندر أو ذي القرنين كما يعبّر
عنه القرآن الكريم، وقد سمّي ذو القرنين; لأنّه حكم المشرق والمغرب، وقد اختلف
المفسّرون في أنّ الإسكندر هو ذو القرنين أم غيره، وقد أسس ذو القرنين عولمة.
كما أنّ النبي سليمان(عليه السلام) قد أسس عولمة في العصور السابقة، حيث وردت
روايات عن أهل البيت(عليهم السلام) في أنّه لم يملك الدنيا إلاّ أربعة، وعدّت منهم
النبي سليمان(عليه السلام)3 الذي ورد في القرآن الكريم:
﴿قَالَ
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لاِحَد مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ
أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾4.
وقال تعالى: ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ
الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾5.
والأُمم المتحدة أغفلت هذه العولمة التي حدثت في العصور السابقة; لأنّهم يعتمدون
على العلوم الحديثة فقط مما يجعل طرحهم ناقصاً.
ونحن نعتقد أنّ الجانب الوحيد من جوانب العولمة القادر على التوحيد هو الوحدة على
الصعيد العقائدي.
* آية الله الشيخ محمد سند-بتصرّف يسير
1- وسائل الشيعة 14: 456، باب استحباب زيارة الحسين والأئمة(عليهم السلام) في حال الخوف والأمن.
2- كامل الزيارات: 459، الحديث 698، الباب (90) أنّ الحائر من المواضع التي يحب الله أن يدعى فيها.
3- البرهان في تفسير القرآن 7: 261، الحديث 7984.
4- ص (38): 35.
5- ص (38): 20.