بسم الله الرحمن الرحيم
يقول تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ * اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُون﴾َ
﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾: لقد تضمنت الآيات السابقة ألوان الوعيد والتهديد لغير المؤمنين من المتكبرين والمغرورين، المجموعة التي بين أيدينا من الآيات الكريمة تفيض حبا إلهيا ولطفا، وتنبجس بالرحمة الشاملة للتائبين. يقول تعالى أولا: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم. لقد فسر الكثير من المفسرين " الدعاء " بمعناه المعروف، وما يؤكد ذلك هو جملة " استجب لكم " بالإضافة إلى ما تفيده الروايات العديدة الواردة بخصوص هذه الآية وثواب الدعاء، والتي سنشير إلى بعض منها فيما بعد. ولكن بعض المفسرين تبع ابن عباس في رأيه بأن الدعاء هنا بمعنى التوحيد وعبادة الخالق جل وعلا، أي " اعبدوني واعترفوا بوحدانيتي " إلا أن التفسير الأول هو الأظهر. ونستفيد من الآية أعلاه مجموعة ملاحظات هي:
1 - أن الله يحب الدعاء ويريده ويأمر به.
2 - لقد وعد الله بإجابة الدعاء، لكن هذا الوعد مشروط وليس مطلقا. فالدعاء واجب الإجابة هو ما اجتمعت فيه الشروط اللازمة للدعاء والداعي وموضوع الدعاء.
3 - الدعاء في نفسه نوع من العبادة، لأن الآية أطلقت في نهايتها صفة العبادة على الدعاء.
تتضمن الآية في نهايتها تهديدا قويا للذين يستنكفون عن الدعاء، حيث يقول تعالى: إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين 1.
أهمية الدعاء وشروط الاستجابة:
ثمة تأكيد كبير على أهمية الدعاء في الروايات المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين عليهم السلام:
1 - في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "الدعاء هو العبادة" 2.
2 - في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنه سئل: ما تقول في رجلين دخلا المسجد جميعا، كان أحدهما أكثر صلاة، والآخر دعاء فأيهما أفضل؟ قال " كل حسن ". لكن السائل عاد وسأل الإمام عليه السلام: قد علمت، ولكن أيهما أفضل؟ أجاب الإمام عليه السلام: " أكثرهما دعاء، أما تسمع قول الله تعالى: ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين. ثم أضاف بعد ذلك: " هي العبادة الكبرى "3.
3 - في حديث عن الإمام الباقر عليه السلام أنه أجاب عن أفضل العبادات بقوله: " ما من شئ أفضل عند الله من أن يسأل ويطلب مما عنده، وما أحد أبغض إلى الله عز وجل ممن يستكبر عن عبادته، ولا يسأل ما عنده " 4.
4 - في حديث آخر عن الإمام جعفر الصادق أنه عليه السلام قال: " إن عند الله عز وجل منزلة لا تنال إلا بمسألة، ولو أن عبدا سد فاه ولم يسأل لم يعط شيئاه فاسأل تعط، إنه ليس من باب يقرع إلا يوشك أن يفتح لصاحبه " 5.
5 - لقد ورد في بعض الروايات أن الدعاء أفضل حتى من تلاوة القرآن، كما أشار إلى ذلك الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وحفيداه من أئمة المسلمين الإمام الباقر والصادق عليهما السلام، حيث قالوا: " الدعاء أفضل من قراءة القرآن " 6.
وفي نطاق تحليل قصير نستطيع أن ندرك عمق مفاد هذه الأحاديث، فالدعاء يقود الإنسان من جانب إلى معرفة الله تبارك وتعالى، وهذه المعرفة هي أفضل رصيد للإنسان في وجوده. ومن جانب آخر يدفع الدعاء الإنسان إلى الإحساس العميق بالفقر والخضوع تجاه خالقه جل وعلا ويبعده عن التعالي والغرور اللذين يعدان الأرضية المناسبة للمجادلة في آيات الله والانحراف عن جادة الصواب والوقوع في المهالك. من جانب ثالث يعمق الدعاء لدى الإنسان الشعور بأنه جل وعلا منبع النعم ومصدره ويدفعه إلى العشق والارتباط العاطفي مع الله جل جلاله. ومن جانب رابع يشعر الإنسان بالحاجة إلى الله تعالى وانه رهين نعمته، ولذلك فهو موظف بطاعته وتنفيذ أوامره، ويرهف إحساسه بالعبودية لله تعالى. وخامس بما أنه يعلم أن للإجابة شروطها، ومن شروطها خلوص النية، وصفاء القلب، والتوبة من الذنوب، وقضاء حوائج المحتاجين، والسعي في مسائل الناس من الأقرباء والأصدقاء وغيرهم، فلذلك يهتم ببناء الذات واصلاح النفس وتربيتها. وسادس يركز الدعاء في نفس الإنسان الداعي عوامل المنعة والإرادة والثقة، ويجعله أبعد الناس عن اليأس والقنوط أو التسليم للعجز. ثمة ملاحظة مهمة هنا، هي أن الدعاء لا يلغي بذل الوسع والجهد من قبل الإنسان، وإنما حسبما تفيد الروايات والأحاديث في هذا الشأن - على الإنسان أن يسعى ويبذل ويجهد، ويترك الباقي على الله تعالى. لذا لو جعل الإنسان الدعاء بديلا عن العمل والجهد فسوف لا يجاب إلى مطلبه حتما. لذلك نقرأ في حديث عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال: " أربعة لا تستجاب لهم دعوة: رجل جالس في بيته يقول: اللهم ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالطلب؟ ورجل كانت له امرأة فدعا عليها، فيقال له: ألم أجعل أمرها إليك؟ ورجل كان له مال فأفسده، فيقول: اللهم ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالاقتصاد؟ ألم آمرك بالإصلاح؟ ورجل كان له مال فأدانه بغير بينة، فيقال له: ألم آمرك بالشهادة؟!.7
ومن الواضح أن الموارد التي يتحدث عنها الحديث الشريف، إنما منع فيها الإنسان عن إجابة دعوته لعدم بذله قصارى جهده وسعيه، فعليه أن يتحمل تبعة تقصيره وتفريطه. من هنا يتضح أن أحد عوامل عدم استجابة الدعاء يتمثل في التباطؤ وترك الجهد المناسب للعمل واللجوء إلى الدعاء وقد جرت سنة الله تعالى على عدم إجابة مثل هذه الدعوات. طبعا، هناك عوامل وأسباب أخرى لعدم استجابة بعض الأدعية. فمثلا عادة ما يحدث أن يخطئ الإنسان في تشخيص مصالحه ومفاسده، إذ يصر أحيانا على موضوع معين ويطلبه من الخالق جل وعلا في حين ليس من مصلحته ذلك. ولكنه يفهم ذلك فيما بعد. وهذا الأمر يشبه إلى حد كبير الطفل أو المريض الذي يطلب بعض الأطعمة والأشربة ويشتهيها، فلا يجاب لطلبه ولا تلبى رغباته، لأنها قد تؤدي إلى مضاعفة الخطر على صحته أو حتى المجازفة بحياته. ففي مثل هذه الموارد لا يستجيب الله تعالى لدعاء العبد، بل يدخر له الثواب يوم القيامة، مضافا إلى أن لإجابة الدعاء شروطا مذكورة في الآيات والروايات الشريفة.
موانع استجابة الدعاء:
لقد ذكرت بعض الروايات ذنوبا متعددة إذا ارتكبها الإنسان تحول بينه وبين إجابة دعائه، مثل سوء النية، النفاق، تأخير الصلاة عن وقتها، اللسان البذئ الذي يخشاه الناس، الطعام الحرام، وترك الصدقة والإنفاق في سبيل الله تعالى 8. وفي إطار هذه النقطة بالذات ثمة حديث جامع عن الإمام الصادق عليه السلام ينقله " الشيخ الطبرسي " في " الإحتجاج " أنه سئل: أليس يقول الله: ادعوني أستجب لكم وقد نرى المضطر يدعوه ولا يجاب له، والمظلوم يستنصره على عدوه فلا ينصره؟ قال: " ويحك! ما يدعوه أحد إلا استجاب له، أما الظالم فدعاؤه مردود إلى أن يتوب، وأما المحق فإذا دعا استجاب له وصرف عنه البلايا من حيث لا يعلمه، أو ادخر له ثوابا جزيلا ليوم حاجته إليه، وإن لم يكن الأمر الذي سأل العبد خير له إن أعطاه، أمسك عنه " 9. نعود الآن إلى الآية الكريمة... فبما أن الدعاء وطلب الحوائج من الله تعالى يعتبر فرعا لمعرفته، لذا تتحدث الآية التي تليها عن حقائق تؤدي إلى ارتقاء مستوى المعرفة لدى الإنسان، وتزيد شرطا جديدا لإجابة الدعاء، متمثلا بالأمل في الإجابة، بل وانتظار تنجز الحاجة وتمامها. يقول تعالى: الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه.
إن ظلمة الليل وهدوئه وسكونه يعتبر - من جانب - سببا قهريا لتعطيل الحركة اليومية لعمل الإنسان السوي ونشاطه. والظلمة - من ناحية أخرى - تمحو عن الإنسان تعب النهار، وتدفعه إلى الاستقرار والرأفة لجسده وأعصابه، في حين يعتبر النور والنهار أساس الحياة والحركة. لذلك يضيف تعالى قوله تعالى: والنهار مبصرا. في النهار المبصر يضاء محيط الحياة وتدب الحركة والنشاط في روح الإنسان وكيانه. والطريف أن " مبصرا " تعني الذي يبصر. وعندما يوصف النهار بهذا الوصف، فإنه في الحقيقة نوع من التأكيد في جعل الناس مبصرين.. ثم تضيف الآية: إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون. إن النظام الدقيق كتناوب الليل والنهار والظلمة والنور، يعتبر واحدا من مواهب الله تبارك وتعالى وعطاياه لعباده، وسر من أسرار الحركة في الحياة وفي منظومة الوجود الكوني. فبدون النور ليس ثمة حياة أو حركة، ومن دون أن يتناوب الليل والنهار - أو الظلام والنور - سيؤدي إلى تعطيل حركة الحياة، بل وجعلها مستحيلة. فشدة النور - مثلا - ستشل الموجودات وتعطل نمو النبات، وكذلك الظلمة الدائمية لها أضرارها. ولكن الناس - وبدواعي العادة والألفة - لم يلتفتوا إلى هذه المواهب الإلهية وما تستبطنه من منافع لهم.
والملفت للنظر أن القاعدة تقتضي أن يكون هناك " ضمير " بدل " الناس " الثانية، فيكون القول: لكن أكثرهم لا يشكرون، إلا أن ذكر " الناس " بدلا عن الضمير كأنه يشير إلى أن طبع الإنسان الجاهل هو كفران النعم وترك الشكر، كما نقرأ ذلك واضحا في الآية 34 من سورة إبراهيم، في قوله تعالى: إن الإنسان لظلوم كفار. يلاحظ هذا المعنى في تفسير الميزان وروح المعاني. أما إذا ملك الإنسان عينا بصيرة وقلبا عارفا بحيث يرى النعم الإلهية اللامتناهية في كل مكان يحل به، وينظر إلى فيض النعم والعطايا والمواهب الربانية، فسيضطر طبيعيا إلى الخضوع والعبودية والشكر، ويرى نفسه صغيرا مدينا إلى خالق هذه العظمة وواهب هذه العطايا.. الآية التي تليها تبدأ من توحيد الربوبية وتنتهي بتوحيد الخالقية والربوبية. فتقول أولا: ذلكم الله ربكم ومربيكم الذي من صفاته أنه: خالق كل شئ. ولا معبود إلا الله: لا إله إلا هو. في الواقع إن وجود كل هذه النعم دليل على الربوبية والتدبير، وخالق كل شئ عنوان لصفة التوحيد في الربوبية، لأن الخالق هو المالك والمربي. ومن المعلوم أن الخلق يستدعي الرعاية الدائمة لأن الخالقية لا تعني أن الله يخلق الخلق ويتركها وشأنها، بل لابد وأن يكون الفيض الإلهي مستمرا في كل لحظة على جميع الموجودات. ولذلك فهذه الخالقية لا تنفصل عن الربوبية. ومن الطبيعي أن هذا الإله هو الوحيد الذي يستحق العبادة، وأن ترجع إليه الأشياء. لذا فإن جملة خالق كل شئ تعتبر الدليل ل ذلكم الله ربكم وإن لا إله إلا هو هي النتيجة لذلك. وتتسائل الآية في نهايتها: كيف يسوغ الإنسان لنفسه الانحراف والتنكب عن الجادة المستقيمة؟ فيقول تعالى: ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُون﴾َ10. ولماذا تتركون عبادة الله الواحد الأحد إلى عبادة الأصنام؟ والملاحظ أن ﴿تُؤْفَكُون﴾ صيغة مجهول، بمعنى أنها تحرفكم عن طريق الحق، وكأن المراد هو أن المشركين فاقدون للإرادة إلى درجة أنهم يساقون في هذا المسير دون اختيار أي نسبة من الحرية والإرادة والاختيار في هذا المجال! الآية الأخيرة - من مجموعة الآيات التي نبحثها - تأتي وكأنها تأكيد لمواضيع الآيات السابقة، فيقول تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُون﴾َ .
" يجحدون " مشتقة من مادة " جحد " وهي في الأصل تعني إنكار الشئ الموجود في القلب والنفس. بمعنى أن الإنسان يقر في نفسه وقلبه بعقيدة أو نشئ ما، وفي نفس الوقت ينفيه ويتظاهر بعكسه أو يعتقد بعدمه في نفسه ويثبته في لسانه. ويطلق وصف الجحود على البخلاء والذين لا يؤمل منهم الخير ويتظاهرون بالفقر دائما. أما " الأرض الجحدة " فهي التي لا ينبت فيها النبات إلا قليلا 11. بعض علماء اللغة أوجز في تفسير " جحد " و " جحود " بقولهم: الجحود الإنكار مع العلم 12. وبناء على ما تقدم فإن الجحود يتضمن في داخله نوعا من معاني العناد في مقابل الحق، ومن الطبيعي أن من يتعامل مع الحقائق بهذا المنظور لا يمكن أن يستمر في طريق الحق، فما لم يكن الإنسان باحثا عن الحقيقة وطالبا لها ومذعنا أمام منطقها فسوف لن يصل إليها مطلقا. لذا فإن الوصول إلى الحق يحتاج مسبقا إلى الاستعداد والبناء الذاتي، أي التقوى قبل الإيمان، وهو الذي أشار إليه تعالى في مطلع سورة البقرة: ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين.
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي- بتصرّف
1- داخر من " دخور " وتعني الذلة، وهذه الذلة هي عقوبة ذلك التكبر والاستعلاء.
2- مجمع البيان، المجلد الثامن، صفحة 528.
3 - مجمع البيان، المجلد الثامن، صفحة 529.
4 - الكافي، مجلد 2، باب: فضل الدعاء والحث عليه. صفحة 338.
5 - الكافي، المجلد الثاني، باب فضل الدعاء والحث عليه ص: 338.
6 - مكارم الأخلاق، طبقا للميزان، المجلد 2، ص 34.
7 - أصول الكافي، المجلد الثاني، باب من لا يستجاب له دعوة الحديث رقم 2.
8 - معاني الأخبار. طبقا لما أورده نور الثقلين في المجلد الرابع. صفحة 534 وأصول الكافي.
9 - تفسير الصافي أثناء تفسير الآية الكريمة. ‹ هامش ص 305 › 1 - يونس - 87 والنمل - 86 والقصص - 71
10 - " تؤفكون " من " إفك " وتعني الانحراف والرجوع عن طريق الحق وجادة الصواب. ولهذا السبب يقال للرياح المضادة " المؤتفكات ". ويعبر عن " الكذب " ب " الإفك " بسبب ما فيه من انحراف عن بيان الحق.
11 - الراغب في المفردات مادة " جحد ".
12 - لسان العرب نقلا عن " الجوهري "