بسم الله الرحمن الرحيم
الحرية بمعناها الواسع تفضي إلى الفوضى والفساد، ولهذا فقد شرع المفكرون بالبحث عن
حل لهذه المشكلة، فعملوا على وضع القوانين، التي يفترضون أنها يمكن أن تنظم هذا
المفهوم، ليستقيم اجتماع الناس، بعدما لاحظوا أن ترك الأمور وفق الأهواء والغرائز
لا يؤدي إلى انحراف المجتمع الإنساني عن الصراط المستقيم فحسب، وإنما يؤدي كذلك إلى
تفككه وبالتالي إلى انحلاله وزواله.
ولا بد لميزان الاحتكام من مستند يرجع إليه، ويشكل ضمانة للاقتناع به، ثم تطبيقه
على المستوى العملي والسلوكي، ولا يخلو أمره من أن يكون من صنع الإنسان وإبداعه، أو
يكون مستندا إلى الدين وشريعة السماء.
وفي هذا المجال لم يجد الغربيون مناصا من الرجوع إلى العقل، بحسب تصورهم، وتشريع
القوانين وفقا لمصالحهم، التي يرونها أو يعتقدونها، لأنهم، ومنذ بداية عصر النهضة،
لاحظوا أن الكنيسة التي كانت تمسك بجميع مرافق الحياة، قيدت الكثير من الحريات، في
كافة المجالات العلمية والسياسية وغيرها، وارتكبت الكثير من المظالم بحق الناس،
وساعدهم على ذلك قراءاتهم الجديدة للكتاب المقدس، بعد حركة الإصلاح الكنسي التي
فجرها مارتن لوثر، والتي أفسحت المجال لجميع الناس أن يطلعوا عليه، بعدما كانت حكرا
على رجال الكنيسة، دون سواهم.
لقد لاحظ هؤلاء المفكرون خلو الكتاب المقدس، والعهد الجديد على الأخص، من أي تشريع
يرتبط بحياة الناس، وتنظيم شؤونهم الدنيوية، مما يكشف عن عدم وجود أي مستند إلهي
لسلوك رجال الكنيسة، وأنهم كانوا يتصرفون تبعا لمدركات عقولهم، أو طبقا لما تمليه
عليهم مصالحهم ورغباتهم، فتمردوا على سلطان الكنيسة، وحظروا على رجالها التدخل في
الشؤون السياسية وغيرها، وحصروا سلطتها أو وظيفتها بالبعد الإيماني والروحي الخالص،
إذ ما دامت احكام العقل هي الميزان، فلا فضيلة لرجال الكنيسة على من سواهم من هذه
الجهة، بل على العكس من ذلك، فقد أثبتت التجربة، وعلى مدى العصور الوسطى، فشل
الرؤية الكنسية، وعدم صوابيتها في مقاربة مشاكل الناس وهمومهم، وعدم موفقيتها في
معالجة هذه المشاكل.
وعلى هذا الأساس يبدو أن ما يفاخر به المفكرون الغربيون من أن الحضارة الغربية
استطاعت تحييد الدين عن شؤون الحياة، وحصر مهمتها في مسائل الإيمان والميتافيزيقا
الروحية، مجانب للحقيقة، لأن الأحكام الكنسية لم تنبع من نصوص دينية، لعدم وجودها
من الأساس، في النصوص المقدسة المسيحية، وإنما هي أحكام صدرت من رجالها من حيث هم
عقلاء ممسكون بمقاليد الأمور، ينطلقون في أحكامهم من كونهم عقلاء ليس إلا، فلا فرق
بين أحكامهم وبين أحكام التحرريين من هذه الجهة، والفرق الوحيد بينهما يتمثل في
إعطاء الأحكام الكنسية صبغة القداسة والإلهية، في ما يمكن اعتباره تمويها للحقيقة،
وتلاعبا ببسطاء الناس، من وجهة نظر هؤلاء المتنورين.
ومهما يكن من أمر، فلما كانت عقول الناس متفاوتة في مدركاتها الذهنية، وفي معالجتها
لهذه المدركات، نتيجة الكثير من الظروف التي تحيط بهم، من بيئية، وتربوية، وثقافية،
واجتماعية، وغيرها، نتج عن ذلك تعدد الموازين، بتعدد هذه الظروف واختلافها في ما
بينها كلا أو بعضا، بالإضافة إلى التطورات والتغيرات التي تتحقق عبر الزمان، تبعا
لتطور الذهنيات والثقافات، وهو ما انعكس تعديلا في القوانين ودساتير الدول
والمجتمعات، كلما ظهر خلل ما، في بعض التطورات والاستنتاجات أو الممارسات الخاطئة.
في المقابل، فقد شدد الإسلام على الحرية المسئولة، وأكد على الضوابط التي تجب
مراعاتها في السلوك الفردي والاجتماعي بشكل عام، وأوضح المساحة التي يمكن للمرء أن
يتحرك في ضمنها، بما يعود بالفائدة عليه وعلى بني جنسه معا، دون أن يهمل جانب آخرته
لمصلحة دنياه، ولا العكس.
وهنا يكمن الفارق الجوهري بين الإسلام وبين المنظومة الفكرية في الغرب، على اختلاف
مشاربها واتجاهاتها، في نظرتهما إلى مفاعيل الحرية ومقتضياتها، ذلك أن الإسلام قد
نظر إلى الإنسان كوحدة وجودية متكاملة، كما سبقت الإشارة إليه، فحرية الفرد ومصلحته
متوازية مع حرية المجتمع ومصلحته، كما هي مرتبطة مع حقوقه الحياتية ارتباطا وثيقا،
وشدد على وحدة الميزان الذي يجب أن يحتكم إليه النوع الإنساني، الذي لا يفرق بين
جنس وجنس، أو بين إقليم وإقليم، أو بين قبيلة وأخرى، إذ (الخلق كلهم عيال الله
وأحبهم إليه أنفعهم لعياله)، كما ورد في الحديث النبوي الشريف، وهذا الميزان هو
الميزان الإلهي الواحد.
وفي هذا المجال لا بد من ملاحظة الأهمية الخاصة التي أعطاها الإسلام لبني الإنسان،
انطلاقا من قوله تعالى: ﴿يا أيها الناس
إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله
اتقاكم﴾1.
إن إحساس الإنسان بالمسؤولية الذاتية، تجاه أي عمل يقوم به، أو سلوك ينتهجه في
الحياة، يولد عنده رقابة ذاتية توجه أفعاله وسلوكه، انطلاقا من معرفته بآثار هذا
السلوك وتبعاته ﴿ولقد خلقنا الإنسان
ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد2﴾.
وهذا بخلاف الأنظمة الوضعية، التي لا يمكنها أن تنفذ إلى أعماق الذات، مما يعني
قصورها عن متابعته في هذه الأعماق.
والنتيجة الحتمية لهذه الأنظمة هي الفشل في تحقيق إنسانية الإنسان، والعجز عن تنظيم
حياته، وفقا لمصالحه الواقعية، من دون أن تمس حريته، أو تؤثر على خصائصه الذاتية،
مهما حاولت أن تقارب هذه الحقوق دون جدوى، وبالتالي فلن تصل به إلى شاطئ السعادة
والأمان.
وفي أقل التقادير فهي تستبطن الكثير من المظالم وانتهاك الحقوق، مع كل تجربة يثبت
فشلها في مقام العمل، ذلك أن كل تجربة – سواء نجحت أو فشلت – لا بد لها من ضحايا
تقع عليهم مفاعيلها وظلاماتها، لأن موضوع التجربة هنا هو الإنسان نفسه، فكلما
ازدادت التجارب ازدادت المظالم، وانقلبت الحقوق إلى مآسي وويلات، دون الأمل في
الوصول إلى نتائج مرضية، لأن لكل فئة رؤيتها وآمالها وأحلامها.
والذي يدلنا على هذه النتيجة حالة التناقض والتعارض بين مفهوم الحرية بمعناها
الواسع المذكور، وبين السلطة المتوجهة والضاغطة على حريته المفترضة، لأن السلطة
تقيد الحرية وتحدد من مفاعيلها، لينتظم شأن الجماعة المنضوية تحت لوائها، الأمر
الذي يدفع المرء إلى استغفال هذه السلطة، ومحاولة الانقلاب عليها، كلما سنحت له
فرصة لذلك، وهو ما نراه يوميا، من تلاعب في القوانين والأنظمة، كلما ظهر في البين
ما يتعارض مع هذه السلطة، فيظهر إلى السطح ما يقيد هذه الحريات، ويكبل الطاقات،
ويقمع السلوكيات، فيفرز المجتمع طبقات تتسلط على من دونها، ودولا تسيطر على من
سواها، بغية تأمين مصالحها، ولو على حساب الآخرين ومصالحهم، وهكذا تسلب الحقوق
وتضيع الكرامات.
* الشيخ حاتم إسماعيل- بتصرّف يسير
1- سورة الحجرات، آية: 13
2- سورة ق، آية:16