بسم الله الرحمن الرحيم
الأجواء التي نشأت فيها العلمانية
في البداية نستعرض لمحة تاريخية عن علاقة أوروبا بالمسيحية والعلمانية.
دخلت أوروبا الغربية في الدين المسيحي في القرن الثاني الهجري، أي: السادس الميلادي.
وهذا أمرٌ مؤسف، ووجه الأسف ليس الانتقال من الوثنيّة إلى المسيحية، وإنّما وجه
الأسف هو أنَّ الدين الإسلامي وهو في ريعان شبابه فاتته فرصة إدخال هؤلاء القوم في
الإسلام، وكانت النتيجة أن احتضن المسيحيون المبشّرون الذين انطلقوا من الروم أو
اليونان إلى أوروبا الغربية لدعوتهم إلى الدين المسيحي، واستمر الدين المسيحي بقوّة
في تلك البلدان إلى أن وصل إلى القرن الثامن عشر الميلادي، وفي هذه الفترة بدأت
تعلو الصيحات الثورية على غطرسة الملوك والنظم السياسية الغربية التي كانت تحرق
الطبقات الفقيرة بنار الفقر وسطوة الاضطهاد، وفي هذا الجو ظهرت التيارات المعادية
لهذه الأنظمة.
وتحالف الملوك ورجال الكنيسة، فرجال الكنيسة يعطون الملوك الشرعية فيما يعملون،
والملوك يدعمون رجال الكنيسة بنفوذهم، وأمام هذا التحالف بدأت قوى إصلاحية تعتمد
على مواجهة الملوك وتحطيم شرعية الكنيسة المتحكّمة في المجتمع آنذاك، فبدأت عمليات
تنظير عديدة، وإن لم تنتج عن انفصال أبدي للدين كما قلنا سابقاً، إلاّ أنّها كانت
تستهدف الحدّ من هيمنة الدين المسيحي على المجتمع.
وعدم حدوث الانفصال الأبدي هو أنّ سرّ الخلقة مرتبطة بالجانب الروحي والغيبي، وأنّ
الدين حتّى وإن حُرّف يكون قابلا للتأثير في المساحة غير المحرّفة منه، حتّى
الديانات الهندية قد يكون بعضها لها أُصول سماوية; لأنّ الأنبياء كانوا منتشرين في
بقاع العالم، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّة إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِيرٌ}1.
حتّى بعض أصول البوذية تتوافق مع الديانات السماوية الأُخرى، وهذا ينطبق على بعض
الديانات الموجودة في شرق آسيا.
وفي هذه الأجواء تبلورت ثلاث مدارس فكرية تأثّر بها المتّفقون والجامعيّون المسلمون،
ونتج عن هذه المدارس ما نسمّيه بالعلمانية.
والعلمانيون الغربيون يتنبّؤون بسقوط الدين الإسلامي، كما سقطت المسيحية.
ونحن نقول لهم إنّ المسيحية لم تسقط، وإنّما سقط التحالف بين رجال الكنيسة الذين
كانوا يبحثون عن مصالحهم الدنيوية والطبقات الإقطاعية متمثّلة في ملوك الظلم
والاضطهاد.
المدرسة الأولى: العلمانية "السكولارزم" فصل الدين عن السياسة والمجتمع
وهي مدرسة فلسفية أيديولوجية تبنّاها مجموعة من فلاسفة القانون والحقوق
والسياسة، ولهذه المدرسة عدّة اتجاهات، ولكنّها تعتمد أساساً على نظرية فصل الدين
عن النظام السياسي والاجتماعي، وأنّ الدين عبارة عن طقوس عبادية ورياضات روحية،
هدفها إشباع الظمأ الروحي عند الإنسان، فالروح لها برنامجها الخاص، والدين معترفٌ
به بهذا المقدار في هذه المدرسة، سواءً أكان هذا الدين دينٌ سماويٌ حقيقي أم كان
دين خرافي زائف، وهذه النظرية لا يعنيها حقّانية الدين أو بطلان إلاّ أنّها ترى
أنّه ضروري لإشباع حاجات الإنسان الروحية، وكلمة "سكولار" تعني باللاتينية "الفصل";
لأنّ هذه النظريّة تفصل الدين عن باقي الأُمور السياسيّة والاجتماعيّة والنظام
المالي وغيره.
ولازالت هذه النظرية لها تأثيرات فكرية إلى يومنا هذا بالرغم من مرور قرنين من
الزمان عليها، والنظام الغربي الحالي ينتمي إلى هذه المدرسة.
المدرسة الثانية: نظرية التعددية "البلوري ألسم"
وهي مدرسة منطقية وليست مدرسة فلسفية، وتعتمد على منهج الإدراك وكيفية استقاء
المعلومات، والمناهج المنطقية القديمة والحديثة، والغربية والشرقية، والمادية وغير
المادية، جميعها تهتمّ بكيفية الإدراك ونظم المعلومات والاستنتاج من تلك المعلومات.
تعتمد هذه النظرية على أساسين:
1ـ إنَّ الإنسان لا يستطيع أن يحيط بالحقيقة بمفرده.
2ـ إنّ الإنسان وإن قدر على إدراك بعض الحقيقة، ولكن لا يستطيع إدراكها كلّها.
العلماء جميعاً يبحثون عن الحقيقة، سواءً كانوا من العلماء الذين يؤمنون بالغيب أو
كانوا من العلماء الماديين; لأنّهم يؤمنون بالعلوم التجريبية بحثاً عن الحقيقة.
القائلون بهذه النظرية يقولون بما أنّك لا تستطيع أن تدرك الحقيقة بمفردك، وأنّك
إذا أدركت بعضها لا تدركها كلّها، إذاً فالآخرين أيضاً يمتلكون سهماً من الحقيقة،
فالحقيقة أشبه ما تكون بالشركة المساهمة بعض أسهمها عندك والأسهم الأُخرى عند
الآخرين، ومن هنا لا يحق لك أن تخطّىء الآخرين، وتفنّد آراءهم من منطلق تعدّد
الإدراك ونسبية إدراك الحق أو الحقيقة، فكل رأي من الآراء في نظرهم يجب أن يكون في
دائرة الاحتمال، وهناك من تأثّر بهذه النظرية، فقال: إنّ كلّ الأديان حق، وكلّها
توصل إلى الله تعالى، بحجّة أنّ الإسلام أو نبي الإسلام لا يملك كلّ الحقيقة، ومن
هنا قبلوا بتعدّد الأديان، وأنّها كلّها حق.
وهذه النظرية تكون مفيدة إذا وضعت لها شروط، وقيّدت بقيود معيّنة، أمّا تركها على
إطلاقها فذو نتائج سلبية مهلكة، وعلى سبيل المثال فسح المجال أمام الشذوذ الجنسي
بعنوان الحرية، وتعدّد الآراء، فتكون النتيجة أنّك لا تستطيع أن تمنع هذه الحالة;
لأنّك لا تملك الحقيقة، وإذا عرفت شيئاً منها فإنّك لن تحيط بها كلّها وهذه النظرية
تجتاح الكثير من المباحث، فهناك من يؤمن بالاستنساخ للفرد البشري رغم مضارّه الجمّة
بالحجّة نفسها، والجدير بالذكر أنَّ لكلّ نظرية عدّة اتجاهات ولها منظورها وآراؤها
وفرقها، ولكن نحن نركّز على الفكرة الرئيسية لكلّ مدرسة من هذه المدارس.
المدرسة الثالثة: المدرسة الهرمونطيقية
وهي مدرسة أدبية تختلف عن مدرسة العلمانية "السكولارزم" الفلسفية والتعددية "البلوري
ألسم" المنطقية، وهذه المدرسة تعني بالعلوم النقلية وكيفية قراءة وفهم النص، سواءً
كانت نصوص سماوية كالتوراة والإنجيل والقرآن، أو كان نصاً بشرياً.
وكان روّاد هذه المدرسة فلاسفة من آلمان متخصّصون في الألسنيات وعلوم اللغة.
وعلى المستوى السياسي هناك تأثير كبير في مجريات الأحداث جرّاء التأثّر بهذه
النظرية، فمثلا: لو أصدرت منظمة الأمم المتحدة بياناً تدعم فيه العرب والمسلمين، ثمّ
أتى بعض المتخصّصين اليهود، وحاولوا قراءة النص قراءةً تدعم مصالحهم معتمدين على
تعدّد القراءات.
والفرق بين هذه المدرسة ومدرسة التعددية "البلوري ألسم" هو أنَّ المدرسة
الهرمونطيقية تعتمد على تعدّد القراءات للنص، بينما التعددية "البلوري ألسم" تعتمد
على تعدّد الإدراك.
والمدرسة الهرمونطيقية ترفض القراءة الفردية للنص، وهي تتعامل مع النص كما تتعامل
مع اللغز الذي له العديد من الحلول، فتسمح بقراءة النص من القراءات المتعددة، وتقبل
كلّ هذه القراءات، ونقصد من القراءات هنا الدلالات والاستظهارات والاستنباطات
والأفهام.
ومن هنا ترفض هذه المدرسة رفضك لأيّ رأي من الآراء، فربما فهمت أنت شيئاً معيّناً
من قراءتك، وتكون لصاحب الرأي قراءة مختلفة عن قراءتك يستطيع من خلافها أن يبرّر ما
تنتقده أنت.
ولهذه النظرية ثمارٌ إيجابية ومهمّة جدّاً وإن لم تكن جميع هذه الثمار إيجابية إلاّ
أنّ بعضها مفيد ونافع، وهذه النظرية معترف بها في المحافل الأكاديمية والبحوث
الجامعية والعلوم الإنسانية.
وتقول هذه النظرية: إنَّ المعنى هو وليد ذهن القارىء والسامع وليس وليد ذهن
المتكلّم والكاتب، وبناءً على هذا فمن حق الإنسان أن يُعدِّد القراءات للنص الواحد،
فمثلا: قراءة التوراة والإنجيل والقرآن أو قراءة قانون معيّن أو قراءة الدستور نجد
في كلّ هذه الأُمور جدلا سياسياً وقانونياً محتدماً في تفسير النص بين الأحزاب
والمجموعات في البلد الواحد فضلا عن الدول المختلفة وكلّ منها يدّعي الوصل بليلى،
ويجرّ النار إلى قرصه، ويدّعي أنّه على حق، ويفسّر النص، ويقرأه حسب ما يتطابق مع
مصالحه ومشتهياته.
الأثر الإيجابي للمدرسة الهرمونطيقية على النقد الأدبي
وظيفة الناقد الأدبي هي تحليل النص الأدبي بتوسّط علوم اللغة، وطبعاً لا يقتصر على
المفردات، وإنّما يشمل النحو والصرف والبلاغة والاشتقاق اللغوي وغيرها، سواءً كان
هذا النقد في اللغة العربية أم غيرها.
ويستطيع الناقد الأدبي أن يستخرج من قصيدة شعرية أو نص نثري في زمان غابر العصر
الجاهلي على سبيل المثال البيئة الجغرافية التي كان الشاعر يعيش فيها، والجو النفسي
والمحيط الاجتماعي والنظام السياسي والعادات والتقاليد في ذلك المجتمع، والنظام
الأُسري فيه والحقائق التاريخية وغيرها، ومن هذا العمل يستطيع الناقد الأدبي أن
يخدم علوماً عديدة، ويقدّم لها معلومات مفيدة في هذا المجال، كلّ هذا يتمّ من خلال
التحليل الأدبي الذي يقوم به الناقد، ووظيفة هذا الناقد شبيهة بعمل عالم الآثار
الذي يستطيع من خلال القطعة الأثرية أن يحدّد الزمان الذي تنتمي إليه هذه القطعة من
خلال الأدلة والبراهين التاريخية.
هذه بعض إيجابيات هذه النظرية، ولا يعني كلامنا هذا أنّ هذه النظرية خالية من
السلبيات. نعم، هناك بعض السلبيات التي سنذكرها لاحقاً.
وتعدّد القراءات شبيهٌ بالتأويل الذي يقول به أتباع مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)
وإن كان مرفوضاً من قبل المدارس الإسلامية الأُخرى، فالتأويل هو نوع من تعدّد
القراءات، وهو أمرٌ إيجابيٌ إذا كان خاضعاً لضوابط وقوانين تحكمه، أمّا إذا كان
بشكل عشوائي وغير مستند إلى البراهين والأدلة، وكان بشكل سائب، يكون بلا شك أمراً
سلبياً مضرّاً بفهم النص.
فتعدّد القراءات هو تجاوز القشور في النص، والغوص في أعماق النص كي يستخرج منه
المعاني المكنونة في بواطنه.
نعم، البعض يرمي مذهب أهل البيت(عليهم السلام) أنّه مذهبٌ باطني وغنوصي; لأنَّ
هؤلاء يرفضون فكرة التأويل جملة وتفصيلا، وهذا خطأ.
نعم، لو طالب هؤلاء بإيجاد أُسس وموازين لهذا التأويل لاتّفقنا معهم، وهؤلاء يقرّون
بجدارة المدرسة الهرمونطيقية، ولكنّهم حين يأتون إلى التأويل يرفضونه مع أنَّ
الأمرين يحملان نفس المعنى; ولهذا فهم يناقضون أنفسهم بأنفسهم.
والتأويل مثبت في القرآن الكريم، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ
مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا
تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ
كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الاْلْبَابِ}2.
الغريب أنّ البعض ينفي التأويل بصورة كلية، وهذا يتناقض مع الحديث القائل بأنّ
القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق.
ورفض التأويل بهذه الطريقة هو تحجيم للنص القرآني، حيث تكون القراءة مقتصرة على
الظاهر والقشور.
قال تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ
تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ* إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَاب مَكْنُون* لاَ
يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ* تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}3.
فالقرآن يصرّح بأنّ له حقيقة مكنونة، ولا يمسّه إلاّ المطهّرون، ولم يقل تعالى:
المتطهّرون، بل قال: المطهّرون، وهم الذين طهّرهم الله تعالى، حيث قال: {إِنَّمَا
يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيراً}4.
فدرجات القرآن ليست واحدة، قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْح
مَحْفُوظ}5.
مجيد، أي: ذو مجد وعظمة، أي: له درجات غيبية في لوح محفوظ عن أن يناله الإنس والجن.
وقال تعالى متكلّماً عن القرآن الكريم: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}6.
فهل من المعقول أن تحلّل القصيدة تحليلا عميقاً، وأن تقف عند قشور القرآن بحجّة رفض
التأويل؟!
* آية الله الشيخ محمد سند
1- فاطر (35): 24.
2- آل عمران (3): 7.
3- الواقعة (65): 75 80.
4- الأحزاب (33): 33.
5- البروج (85): 21 22.
6- العنكبوت (29): 49.