إن المشورة إنما يُراد منها استنصاح ذوي العقل والتجربة من الأوداء والأحباء للوقوف
على محمود الرأي وممدوح الموقف، وموفق الفعل وذلك لأجل ترجيح احد المحتملات على
غيره مما هو في ذهن المستشير وذلك لان الإنسان مهما بلغ من العقل والعلم لا يمكن له
أن يستقل برأيه عن غيره سواء كان ذلك في أمر شخصي أو عام ومن أمور المعاش أو المعاد.
وفي المشورة درة جاد بها الإمام علي(ع) يقول فيها: "لا صواب مع ترك المشورة".
وهذه الحكمة تقرر حكما وقاعدة هي أن تارك المشورة على كل حال مخطئ غير مصيب وان
تصور بصورة المصيب، ويمكن تصوير الأمر بوجوه منها:
1- ان معنى الصواب الآتي من الإصابة في الأمور التي تقع محل الفعل فتارك المشورة في
أموره لاستغنائه عن غيره وعن عقولهم وتجاربهم استقلاله برأيه واستبداده به لن يكون
في الأعم الأغلب مصيباً لما يقصده ويروقه وبالتالي فإن من اعتاد ذلك ولم يرب نفسه
على طلب مشورة ذوي الرأي والحكمة سيكثر وقوعه في الأخطاء وبالتالي فإن إصابته
للواقع والمصلحة في البعض القليل من أرائه وأفعاله وأقواله لا تساوي ما يقع فيه من
الأخطاء.
2- حتى لو أصاب تارك المشورة وفرضنا انه حصل مطلوبه فان لا يعد في عرف العقلاء
مصيبا وذلك لمخاطرته بسلوك طريق وانتهاج أسلوب لا يعلم به وهو غير مطلع على مزلاتها
ومعوقاتها وعقباتها، فحتى لو وصل إلى مقصده من سلوك هذه الطريق فان العقلاء لا
يعدونه مصيبا بل قد يطبقون على لومه وذمه وتوبيخه لتهوره ويتهمونه بالغرور وينسبون
فعله إلى المغامرة وحالته إلى الطيش.
3- إن في المشورة والتعود عليها آثاراً وبركات على الإنسان فردا او جماعة أن لا
يستهينوا بها وعليهم جعلها سنة في حياتهم بكافة أبعادها ذلك لان المشورة تؤدي
الوظائف التالية:
- إن كان اسم الإنسان مشتق من الأنس في اللغة فحري بالإنسان أن يجعل مسماه متماهياً
مع اسمه لان التسمية كاشفة عن بعض مزاياه وبعض الحكمة من وجوده ولذا فمن الواجب
بحسب طبيعة الإنسان أن يسعى لاكتساب هذا الأنس مع أبناء جنسه ويحرص على بقائه وفعل
كل ما يغذيه وينميه ولذا ترى كثيرا من التشريعات حتى فيما يتعلق بالعبادات جاءت في
بعض أبعادها لصناعة أجواء تشكل فرصا لإيجاد هذا الأنس وتقوية أسبابه فلقد حثت
الشريعة على الصلاة في المساجد وعلى نفس الاجتماع في المساجد وفضلت صلاة الجماعة
على الصلاة فرادى وكذلك صلاة الجمعة والعيدين إضافة إلى موسم الحج الذي يتيح فرصة
اجتماع مليوني وفي كل ذلك ليتجدد الأنس بين أبناء الأمة على اختلاف ألوانهم م
وأعرافهم ولعل المحبة تتفتح وردها بينهم فتكون ناظمة لحياتهم.
- قال تعالى"وتعاونوا على البر والتقوى" فالمطلوب إيجاد حالة التعاون على
الخير ووجوهه وعلى ما فيه منافعهم أفراداً وجماعات وأمة، ذلك أن التعاون هو مدماك
من مداميك بناء وحدة الأمة المطلوب تحقيقها والحفاظ عليها وتوطيد أواصرها ولا شك أن
المشورة تؤمن جانبا من التعاون وهي بحد ذاتها من أنواع التعاون ومفضية إلى غيرها من
أنواعه
- إن المشورة بنفسها فضيلة فردية للمستشير وهي أيضاً سبب لغيرها من الفضائل وذلك
لأنها قامعة للغرور والتكبر وهي من مصاديق التواضع لان ما ينتج عنها هو استعداد
المستشير لقبول النصيحة من ذوي التجربة والحكمة والدين وهذا ما يسهل عليه العمل بها
فتارك المشورة مخطئ وغير مصيب لأنه بتركه لها ضيع سببا مهما وعظيما من أسباب
الفضائل التي يفترض أن يتحلى بها وثمة وجوه أخرى المجال أضيق من أن يتسع لها والحمد
لله رب العالمين.